9 مصاحف الكتاب الاسلامي

 

انكس ن فتح الباري

الرابط

 https://drive.google.com/file/d/1oQ6F4ip_x4FPYXEL9by5sq_at0QyoUMM/view?usp=sharing

اندكس / جاهز للالصاق بأي موفع

Translate

الأربعاء، 6 أبريل 2022

كتاب نصرة الثائر على المثل السائر - ط مجمع اللغة العربية المؤلف صلاح الدين الصفدي

 

تمَّ تنزيل هذا الكتاب من موقع الورَّاق – جزاهم اللَّه خيراً  

نصرة الثائر على المثل السائر صلاح الدِّين خليل بن أيبك الصفدي 

بسم الله الرحمن الرحيم عفوك اللهم

خطبة الكتاب

الحمد لله الذي فطر عقول البشر متغايرة، وجعل النفوس برأيها عل نقطة الرضى دائرة، وزين لها أعمالها حتى توهمت أنها في الأمثال السائرة.

أحمده على نعمه التي أوضحت ما أبهم وألبس، وأبدت نار الهدى التي لم تكن بسوى أنامل الذوق تقبس، وراضت جواد الانتقاد الذي إذا أم غاية لم يثن عنانه ولم يحبس. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يسجع بها حمام اللسان من اليقين على أراكه، وتنجي قائلها من الوقوع في حبائل الشرك وأشراكه، وتكون له ذخيرة إذا عدم سكونه بعد حراكه. وأشهد أن محمدا سيدنا وعبده الذي عصمه الله من الخطأ في القول والعمل، وحرس به سرح الفصاحة ولولاه لاختلط المرعى بالهمل، وآتاه من جوامع الكلم ما لم تطمح إليه عين أمنية ولم تطمع فيه يد أمل، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين هابتهم الأساود وخافتهم الأسود، وتجانست أفعالهم فما منهم إلا من يجول ويجود، ويسوس ويسود، وتبرأت شيمهم من النقائص فلم يكن فيهم مختال ولا متكبر ولا حسود، صلاة تتبسم عن ثغرها شفة الفجر في لعس الظلام، ويتلثم بنورها وجه البدر في عرس التمام.

وبعد: فإن كتاب المثل السائر للصاحب ضياء الدين بن أثير الجزيرة، عامله الله بلطفه، وسامحه بما هزت به نسمات الخيلاء من غصن عطفه، من الكتب التي خفقت له في الاشتهار عذبات أوراقه، وسعى القلم في خدمته على رأسه إذا سعى الخادم على ساقه. واشتهر بين أهل الإنشاء اشتهار الليل بالكتمان والنهار بالإفشاء، لا بل اشتهار بني عذرة في الحب بتحرق الأحشاء، وأولع به أهل الأدب في الآفاق ولع الكريم بالإنفاق، لا بل ولع الرقباء بالعشاق.

إلا أن واضعه رحمه الله، وان جمع فيه العلم والعمل، وسجع فيه بين الثقيل والرمل، وتوهم أن بدر فضله قد تم وكمل، وتخيل أن جيد الإنشاء بعده قد عطل، وفنه قد خمل، قد أذهب حسناته النادرة، بتوالي سيئاته البادرة، وأضاع تلك الزهرات الفذة، في قفار الدعاوى التي لا يجد فيها السالك لذة، وطال على الناس بعد هلاله سواد ليله، ورفضوا مواقع طله لغثاء سيله. ونعم فإنه: ما الجزع أهلٌ أن تردّد نظرةٌ  فيه وتثنى نحوه الأعـنـاق

لأنه أفنى ذلك البسط في الإعجاب بنفسه والإطراء، وأطال في الغض من أبناء جنسه والازدراء، وظن أن الله قد حرم الفصاحة على من يأتي من بعده، وأن الذين من قبله إما شيخ قد خرف في هرمه، وإما طفل يعبث في مهده. وجر رداء الكبر والخيلاء مخيطا بإبر الحمد، وبالغ في ذلك مبالغة أبي زبيد الطائي في وصف الأسد. ووصف نفسه ولا وصف امرىء القيس لأفراسه، ومدحها ولا مدح أبي نواس سلافة كاسه، وكرر ذلك فغثى النفوس بذلك الغث، وزاد حتى رثى القلق ثوب الصبر لمارث.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احذروا ثلاثا : الحرص فإنه أخرج آدم من الجنة، والكبر فإنه حط إبليس عن مرتبته، والحسد فإنه دعا ابن آدم إلى قتل أخيه.

وقال صلى الله عليه وسلم: إن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ويقال: إنه أول ذنب عصي الله به في السماء والأرض. وقال النبي صلى الله عليه وسلم حاكيا عن الله عز وجل: الكبرياء ردائي فمن نازعنيه أدختله النار. وقال جعفر بن محمد: علم الله أن الذنب للمؤمن خير من العجب، ولولا ذلك ما ابتلي مؤمن بذنب.

وقال بعض الحكماء: البلية التي لا يؤجر المرء عليها العجب، والنعمة التي لا يحسد عليها التواضع.

ومما قيل: لا شيء أكتم للمحاسن من التيه والعجب.

هذا إلى ما في الكتاب من فلتات عديدة، واختيارات غير موفقة ولا سديدة، ونصر باطل، وتحلية عاطل، وترجيح ما ضعف ووهى، وتوهين ما تحرر وانتهى.

مساوٍ لو قسمن على الغواني  لما أمهرن إلا بالـطّـلاق

وكنت أقف على أطلالها عند المراجعة ناديا، وأعثر في أذيالها حين المطالعة غالبا، وأتأوه لانفراد تلك اللآلىء في سلوك السبج، وأستطيل سواد لياليه والصبح من محاسنه ما أسفر ولا انبلج.

وبلغني ما وضعه عز الدين بن أبي الحديد رحمه الله على الكتاب من المؤاخذة، وأنه استصرخت به تلك الظلامات عائذة. فلما وقفت على الفلك الدائر وجدته قد أغفل كثيراً ، وأخذ قليلا وترك أثيرا . فأحببت بعد ذلك أن ألتقط ما غادره، وأتتبع شاذه ونادره.

وعليّ أن أقضي صلاتي بعدما  فاتت إذا لم أقضها في وقتها

على أنني بعد ابن أبي الحديد كمن جاء بعد اجتحاف سيل، وأصبح بعد قاطف النهار حاطب ليل. فإن هذا الرجل له تصانيف تدل على تمكنه واطلاعه، وسداد مراميه عند مد باعه، وريه من الفنون وقيامه بها واضطلاعه. منها تعليقان على المحصل والمحصول للإمام فخر الدين وتعليقة ثالثة على الأربعين لفخر الدين، ونظم فصيح ثعلب نظما جيدا في يوم وليلة، وهذا الفلك الدائر علقه في ثلاثة عشر يوما مع أشغال ديوانه.

وكتب إليه أخوه موفق الدين ابن أبي الحديد لما وضع الفلك الدائر:

المثل الـسـائر يا سـيدي  صنفت فيه الفلك الـدائرا

لكـنّ هـذا فـلـكٌ دائرٌ  أصبحت فيه المثل السائرا

ووضع على نهج البلاغة شرحا في ستة عشر مجلدا، وناهيك بمن يتصدى لنهج البلاغة ويشرحه، ويأتي على ما يتعلق به من كل علم: أصولا وفقها وعربية وتاريخا وأسماء رجال وغير ذلك. ومن وقف على هذا الشرح، علم أنه قل من يدخل معه ذلك الصرح، أو يسام معه في مثل هذا السرح، وحسبك بمن وأخذ الإمام فخر الدين وأورد عليه. ووجدت له أبياتا أولها: وحقك لو أدخلتني النار قلت لل  لذين بها قد كنت ممن يحـبـه

وأفنيت عمري في دقيق علومه  وما بغيتي إلاّ رضاه وقـربـه

هبوني مسيئا أوتغ الحلم جهلـه  وأوبقه دون الـبـرية ذنـبـه

أما يقتضي شرع التكرم عفـوه  أيحسن أن ينسى هواه وحـبـه

أما ردّ زيغ ابن الخطيب وشكه  وتمويهه في الدّين إذ جلّ خطبه

أما كان ينوي الحق فيما يقولـه  ألم تنصر التوحيد والعدل كتبـه

فقلت أنا رادا عليه في وزنه ورويه: علمنا بـهـذا الـقـول أنـك آخـذ  بقول اعتزالٍ جل في الدين خطبـه

فتزعم أن اللّه في الحشر مـا يرى  وذاك اعتقاد سوف يرديك غـبّـه

وتنفي صفات اللّـه وهـي قـديمةٌ  وقد أثبتتها عن إلـهـك كـتـبـه

وتعتقد القرآن خلقـا ومـحـدثـا  وذلك داء عزّ في النـاس طـبـه

وتثبت للعبد الضـعـيف مـشـيئةً  يكون بهـا مـا لـم يقـدره ربـه

وأشياء من هذي الفـضـائح جـمةً  فأيكما داعي الضلال وحـزبـه ?

ومن ذا الذي أضحى قريبا من الهدى  وحامى عن الدين الحنـيفـي ذبّـه

وما ضر فخر الدين قولٌ نظمـتـه  وفيه شناع مـفـرط إذ تـسـبـه

وقد كان ذا نورٍ يقود إلى الـهـدى  إذا طلعت في حندس الشك شهبـه

ولو كنت تعطي حق نفسـك قـدره  لأخمدت جمرا بالمحال تـشـبّـه

وما أنت من أقرانـه يوم مـعـرك  ولا لك يوما بـالامـام تـشـبّـه

ونقلت من خط الحافظ اليغموري قال: أنشدني الإمام ركن الدين أبو القاسم لنفسه في عز الدين بن أبي الحديد وقد صنف الفلك الدائر على المثل السائر:

لقد أتى بـاردا ثـقـيلا  ولم يرث ذاك من بعيد

فهو كما قد علمت شيء  أشهر ما كان في الحديد

وصنف كتابا يرد فيه على ابن أبي الحديد وسماه: نشر المثل السائر وطي الفلك الدائر قلت: هذا ركن الدين أبو القاسم، هو محمود بن الحسين ابن الإمام أرشد الدين الأصبهاني الأصل السنجاري المولد. كان حنفيا يعرف المذهب والأصولين والخلاف والأدب، قرأ على السيف الآمدي وعلى ضياء الدين ابن الأثير، وبطل خرقة الفقهاء وتزيي بزي الأجناد، وتوفي بدمشق في سادس شهر رمضان سنة خمسين وستمائة، ودفن بسفح قاسيون. ومولده في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة. وقال في انتقاله إلى الجندية أبياتا منها: فانظر أخا العقل إلى حـرفةٍ  منها هربنا للوغى الجحـفـل

لو لم تكن أنحس ما في الورى  لم ترض عنها بالردى الاعجل

وكنت أنا في وقت قد كتبت على المحصل للإمام فخر الدين الرازي أبياتا يحسن هنا ذكرها وهي: علم الأصول بفخر الدين منتصرٌ  به نصول بإعجاب وإعـجـاز

أضحت به السنة الغـراء واضـحةً  قد استقامت لمختـار ومـجـتـاز

له مباحث كم قد أحرقت شـبـهـا  بشهبها فمن الزاري على الرازي !

وأنشدني من لفظه شيخنا الإمام الحافظ أثير الدين أبو حيان محمد بن يوسف بالديار المصرية سنة ثمان وعشرين وسبعمائة قال: أنشدنا شيخنا النسابة حافظ المشرق والمغرب شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن الدمياطي يوم الاربعاء الخامس عشر من جمادى الآخرة سنة ثمانين وستمائة بالقاهرة بقراءتي عليه قال: أنشدنا الشيخ العالم الصاحب عز الدين أبو حامد عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن حسين بن أبي الحديد المعتزلي ببغداد، ومولده بالمدائن مستهل ذي الحجة سنة ست وثمانين وخمسمائة لنفسه: لولا ثلاثٌ لم أخف صرعتي  ليست كما قال فتى العبـد

أن أنصر التوحيد والعدل في  كل مكان بـاذلا جـهـدي

وأن أناجي اللّه مستمتـعـا  بخلوةٍ أحلى من الشّـهـد

وأن أتيه الدهر كبرا علـى  كل لئيمٍ أصـعـر الـخـد

لذاك أهـوى لا فـتـاةٍ ولا  خمرٍ ولا ذي ميعة نـهـد

قول ابن أبي الحديد هنا: لولا ثلاث.. البيت، إشارة إلى قول طرفة بن العبد:

فلولا ثلاثٌ هنّ من لذّة الفـتـى  وجدك لم أحفل متى قام عـوّدي

فمنهن سبقي العاذلات بـشـربة  كميت متى ما تعل بالماء تـزيد

وكري، إذا نادى المضاف، مجنبا  كسيد الغضا، نبهته، المـتـورد

وتقصير يوم الدجن والدجن معجب  ببهكنة تحت الخباء المـعـمّـد

ومن شعر ابن أبي الحديد قصيدة بائية من جملة مدائحه في علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

ألا إن نهج المجد أبيض مـحـلـوب  على أنه جم المسـالـك مـرهـوب

هو العسل المـاذيّ يشـتـاره امـرؤ  بغاه وأطراف الرماح الـيعـاسـيب

ذق الموت إن شئت العلا واطعم الردى  فنيل الأماني بالمـنـيّة مـكـسـوب

خض الحتف تأمن خطة الخسف إنمـا  يبوح ضرام الخطب والخطب مشبوب

ألم تخبر الأخبار عن فـتـح خـيبـر  ففيها لذي اللب المـلـب أعـاجـيب

وفوز عليٍ بـالـعـلا فـوزهـا بـه  فكلٌ إلى كلٍ مضـافٌ ومـنـسـوب

حصونٌ حصان الفرج حيث تبرجـت  وما كل ممتط الجـزارة مـركـوب

تناط عـلـيهـا لـلـنـجـوم قـلائد  وتسفل عنها للـغـمـام أهـاضـيب

منها: وأرعن موار العنـان يمـورهـا  فلم يغن عنها جرّ مجرٍ وتلـبـيب

فللخطب عنها والصروف صوارفٌ  كما كان عنها للنوائب تـنـكـيب

منها نهار سيوفٍ في دجى ليل عثـيرٍ  فأبيض وضاحٌ وأسود غربـيب

ينوح عليها نوح قـارون يوشـعٌ  ويذري عليها دمع يوسف يعقوب

بها من زماجير الرجال صواعق  ومن صوب آذيّ الدماء شآبـيب

منها يمج منونا سيفه وسنـانـه  ويلهب نارا غمده والأنابيب

ومن مدائحه في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قصيدة أولها:

عن ريقها يتحدّث المـسـواك  أرجا فهل شجر الأراك أراك

ولطرفها خنث الجبان فإن رنت  باللحظ فهي الضيغم الفـتـاك

شرك القلوب ولم أخل من قبلها  أن القلوب تصيدها الأشـراك

منها يا وجهها المصقول ماء شبـابـه  ما الحتف لولا طرفك الفـتـاك

أم هل أتاك حديث وقفتها ضحـى  وقلوبنا بشبا الـفـراق تـشـاك

لا شيء أقطع من نوى الأحباب أو  سيف الوصيّ كلاهمـا سـفـاك

وهاتان القصيدتان طويلتان، اختصرت منهما ما اختصرت، واقتصرت على ما اقتصرت، طلبا للدلالة على فضله، ومضاء سنانه ونصله. ولكن أدته مواده الغزيرة إلى أن اعتزل وتشيع، وأهمل جانب السنة وضيع. وله نثر أجاد فيه بعض جوده، ولم يكن كنظمه الذي رفع هضبه ووطد طوده. وقد ساق شيئاً منه في الفلك الدائر، ونثر ابن الأثير أقعد منه عند أولى البصائر، ولو حذفه كان خيرا من إثباته، وأمنع له من عجم سهمه وغمز قناته.

فأي قوادم ينهض بها من جاء بعد هذا المتكلم، وأي سيف يفري فريه وهو متثلم، والمعتزلة فرسان المباحث، وممن توفرت لهم الهمم على الجدل وطاوعتها الدواعي والبواعث. ولكن:

قد يدرك المجد الفتى ولباسه  خلق وجيب قميصه مرقوع

وقد ترك الأول للآخر أكثر مما جاء به، وتفاوتت الأذهان في انتقاد مها الحسن وكواعبه، وأعقب العقل سحابه لما انجلت بصوب سحائبه.

وما عقمت أم الندى بعد حاتمٍ  لها كلّ يوم في البرية مولود

وقد جمعت ما عثرت عليه من هفوات ابن الأثير في هذه الأوراق، وضربت عليها هذا الفسطاط ومددت هذه الأرواق، وسردتها على الترتيب، وسقتها على ذلك التبويب. وسميت ذلك نصرة الثائر على المثل السائر واخترت هذه التسمية له شارة وإشارة، لأن الثائر لغة هو الذي لا يبقي على شيء حتى يدرك ثاره. وإذا ناقشته في بحث أورده، ونافسته في صالح أفسده، لا أكاد أخلي ذلك الموطن من محاسن أرباب هذا الفن الذين عابهم، وتردد إلى مواقف ذمهم وانتابهم. خصوصا القاضي الفاضل رحمه الله تعالى. فإنه قد عارضه في بعض ما أنشاه، وعاب عليه ما دبجه ووشاه.

وقال السها للشمس أنت خفـيةٌ  وقال الدّجى يا صبح لونك حائل

والسيف مشهور بغير حمائل، والصبح مشهود بغير دلائل. وأين مقاصد الفاضل وبعد مرماه، واختلاسه المعاني بلطف مغزاه وخفي مسراه. هيهات، فإن بينهما من الفرق، ما بين ذل القدم وعز الفرق. ولطف ذلك لا يخفى على ذوق الكاتب الماهر، وحسن معانيه في الباطن أضعاف كلامه في الظاهر.

ولله در ابن سناء الملك إذ يقول على أن غالب ديوانه فيه :

شهد الكاملون بالفضل للـفـا  ضل أو كاد يشهد المـولـود

وعد الدهر أن يجود على الخل  ق ولكن بمثـلـه لا يجـود

وابن قلاقس إذ يقول أيضاً فيه من جملة أبيات:

وأسكرنا بيانا دام حـتـى  عجبنا كيف حذّرنا المداما

معان يقعد الفصحاء عنهـا  وتسمعها خواطرهم قياما

يتيماتٌ تصدّق فـي عـلاه  مقالة من دعاه أبا اليتامى

وأما ابن الساعاتي فأكثر فيه المدح. من ذلك: ما من يقيس إليه خلقا مـثـلـه  إلا كمن قاس الوهاد إلى الذّرى 

فإذا تقدم في العلاء مـفـاخـرا  عرف السماك محله فتـأخـرا

وقد تصدى الناس لابن الأثير كونه ناقض الفاضل، ورمي من ألسنتهم وأقلامهم بمشق سيوف المناظر، ورشق سهام المناضل.

فلا تجزعن من سنّة أنت سرتها  فأول راضي سنّةٍ من يسيرها

وليس هذا موطن الثناء على القاضي الفاضل، وسوف تقف عليه، وتدلك نفحات طيبه إذا انتهيت إليه.

ومن هنا أجرد عن ساعد المؤاخذة، وأبرى السهام التي أظنها في الغرض نافذة. وعلى الله قصد السبيل، هو حسبي ونعم الوكيل.

 

الابتداء بالحمدلة

قال ابن الأثير سامحه الله تعالى : نسأل الله أن يبلغ بنا من الحمد ما هو أهله، وأن يعلمنا من البيان ما تقصر عنه مزية النطق وفضله، وحكمة الخطاب وفصله.

أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل كلام لايبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم فلو قال: الحمد لله لكان أفضل. وربما عيب ذلك على الزمخشري في أول المفصل كونه قال: الله أحمد. وعلى الحريري كونه قال: اللهم إنا نحمدك. لأنهما ما افتتحا كلامهما بالحمد. والأولى الأخذ بما جاء عن الله تعالى، فإنه لا مقام للعبد أشرف من الصلاة لأنها عبادة. حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقرب ما يكون من العبد من ربه وهو ساجد. والفاتحة التي هي أم الكتاب والعمدة في الصلاة، إنما افتتحت ببسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين. وقد قال سهل بن هارون: حق على كل ذي مقالة أن يبدأ فيها بحمد الله قبل استفتاحها، كما بدىء بالنعمة قبل استحقاقها. واستعمل ابن الأثير رحمه الله تعالى ذلك في توقيع كتبه فقال: كل كلام لا يبدا فيه بحمد الله فهو أجذم. وقد أورد ابن أبي الحديد على ابن الأثير فيما سأله في هذه السجعة ما فيه مقنع، فليؤخذ ذلك من الفلك الدائر.

وأما السجعة الثانية، فما أدري معنى قوله تقصر عنه مزية النطق، فأي شيء يعلمه حتى تقصر عنه مزية النطق ? إن أراد بذلك لطف المعاني التي هي أرواح الألفاظ فمتى قصر النطق عن معنى لم تبرزه النفس كاملاً? وإن أراد بذلك الأشياء التي تكون على تراكيب الألفاظ من الطلاوة والرونق ذلك غير البيان لأن البيان إيضاح المعاني وإبداؤها وإظهارها، وذلك الذي أردته من الحسن واللطف اللذين يكونان في بعض الكلام، فذلك غير البيان. وهو كالملاحة التي لا يعقل لها معنى ولا يعبر عنه. كما قيل: شيء به فتن الورى غـير الـذي  يدعى الجمال ولست أدري ما هو 

ويقال: مع المحبوب شيء آخر غير حسنه هو الذي يشفع له إلى القلوب. ألا ترى أن بعض الصور مفردات أعضائها نهاية في الحسن، وليس لها ذلك المعنى الذي لغيرها. وكذا قيل في الترياق، إنه بعد التركيب يفيض الله عليه خاصة لم تكن في قوة أجزائه حالة الإفراد. والهيئة الاجتماعية لها معنى غير الحالة التي تكون لأفرادها ولا شك أن لكلام الفصحاء في حالة التركيب خواص لا يمكن التعبير عن ذلك الحسن الموجود فيها. ولهذا أفتى الفقهاء فيمن بدل ترتيب الفاتحة، وقلب بعض الآيات إلى موضع بعض أنه لا تصح صلاته، لأنه يبطل إعجاز القرآن العظيم، وهو سياقته على هذا النمط الغريب، وتأليفه على هذا النظم العجيب. وهنا بحث بين الأشعري والمعتزلي، أضربت عنه طلباً للاختصار. فإن كان ابن الأثير سأل هذه الخاصة، فهذه الخاصة لا يطلق عليها لفظ البيان. وإذا كان الأمر كذا، فقد ثبت أن معنى هذه السجعة غير مفهوم. وقد ناقشه ابن أبي الحديد في قوله النطق وما الذي أراد به فليؤخذ من كتابه.

قال: وعلى آله وصحبه، الذين منهم من سبق وبدر، ومنهم من صابر وصبر، ومنهم من آوى ونصر. وأقول: لو قال: ومنهم من هاجر ونصر لكان أحسن من وجهين: أحدهما أنه يحصل له الموازنة والترصيع بين هاجر وصابر، وثانيهما أنه يتناول المهاجرين والأنصار من الصحابة رضوان الله عليهم، فإنهم مقدمون على الأنصار، وعلى قوله لا ذكر للمهاجرين، فإن من الأنصار من سبق غيره إلى الإيمان.

فإن قيل: قوله صابر وصبر المعنى واحد، قلت: اتبع لفظ القرآن في قوله تعالى: اصبروا وصابروا. فإن الصبر غير المصابرة، لأن المصابرة مفاعلة، وهي مقابلة الفعل من الآخر بمثله. وكأن ذلك زيادة على الصبر الذي يطيقه الإنسان.

 

عجز الحريري عن إنشاء ما طلب منه في الديوان

قال وقد ذكر الحريري المقامات رحمه الله تعالى، وأنه صدر عنه مثل هذا الكتاب، ولما استكتب في الديوان أفحم. وساق الحكاية المشهورة. ثم قال: وهذا مما يعجب منه، وسئلت عن هذا فقلت: لا عجب، لأن المقامات مدارها جميعها على حكاية تخرج إلى مخلص، وأما المكاتبات فإنها بحر لا ساحل له، لأن المعاني فيها تتجدد بتجدد حوادث الأيام، وهي متجددة على عدد الأنفاس، ألا ترى أنه إذا كتب الكاتب المفلق عن دولة من الدول الواسعة التي يكون لسلطانها سيف مشهور وسعي مذكور، ومكث على ذلك برهة يسيرة لا تبلغ عشر سنين، فإنه يدون عنه من المكاتبات ما يزيد على عشرة أجزاء، كل جزء منها أكبر من المقامات حجماً، ثم إذا غربلت خلص منها النصف.

أقول: أما عجب الناس من واقعة الحريري فهي موضع العجب في بادىء الرأي. لأن من يصدر عنه مثل هذا الكتاب الذي لا نظير له في بابه، وهو في الآداب: شمس ضحاها هلال ليلتها  درّ تقاصيرها زبر جدها

ثم يتوقف في كتاب يطلب منه فإن ذلك غريب. وأما إذا فكر الإنسان، وعلم أن الإنشاء من باب الفتوح على الإنسان، لم يكن ذلك بعجيب. لأن الله تعالى قد يفتح بذلك في وقت دون وقت. وقد عد الشيخ محيي الدين بن عربي النظم وحسن الكتابة من الفتوح، وما يزال الناس كذلك تارة يفتح عليهم وتارة لم يفتح. والحريري في ذلك الوقت لم يفتح عليه.

على أن الحريري في وقت عمل المقامات كان في بيته مخلى ونفسه، يصوغ ويكسر ويهدم ويبني فإذا نبا به مقام تحول إلى غيره، وإذا تقاعس عليه معنى تركه وجذب ما هو أسلس قياداً منه. وقد ذكر أن مسودات المقامات كانت حمل جمل. وذلك أمر غير جلوسه في الديوان وأول قدومه، وهو بين جماعة من أرباب الفن، ويقترح عليه معنى لا محيد له عنه، ولا فسحة له في مضيقه، ولا نجاة له من زلله، ولم يكن قد استعد له، لا جرم أنه أفحم وتوقف ونتف عثنونه.

وليس يعاب المرء في جبن يومه  إذا عرفت منه الشجاعة بالأمس

ولعل ابن الأثير سامحه فيما أورده من كلامه في المثل والوشي المرقوم والمعاني المبتدعة وغير ذلك من نسبة المقامات. فإنه حكى عن نفسه في المثل السائر أنه كان يتلو القرآن العظيم، فإذا مرت به الآية الكريمة ولمح فيها معنى يناسب أن يكون في كذا، بنى عليه كتاباً أو فصلاً وأثبته. أو كما قال. وغالب ما أثبته إنما هو معارضات عارض بها كتب القاضي الفاضل وأبا إسحاق الصابي وهذا من باب عمل المقامات وهو في بيته يطالع على ما يعمله ويتروى ويمحو ويثبت.

وتوهموا اللعب الوغى، والطعن في ال  هيجاء غير الطعـن فـي الـمـيدان

وأما قوله: إن الكاتب يظهر عنه في المدة التي ذكرها عشرة أجزاء كل جزء أكبر حجماً من المقامات وإذا غربلت ونقحت كانت خمسا، فهذا تعصب ودعوى لا يقوم عليها برهان، أو جهل بلغ الغاية. وأي ترسل لكاتب تقدم عصره وإلى الآن يجمع له من ترسله مجلدة واحدة تكون كالمقامات يتداولها الناس، ويتعاطون كؤوسها، ويتمثلون بأبياتها وأسجاعها، ويكررون عليها من أولها إلى آخرها، ويبحثون عن عوراتها، وينقبون عن مساوئها، فلا يجدون فيها مغمزاً، ولا يقعون فيها على مطعن. بل تصفوا على السبك، وتجود على الاستعمال.

ويزيدها مرّ الليالي جدةً  وتقادم الأيام حسن شباب

على أن ابن الخشاب رد عليه أليفاظاً يسيرة وأجابه المسعودي عنها وابن الخشاب أصاب في القليل من القليل، وتعنت في كثير القليل. وكذلك ابن بري وضع عليها نكتا يسيرة.

وناهيك بكتاب اشتهر، وضرب به المثل، وأصبح إحدى الأثافي في علم الأدب، وأصبحت ألفاظه ومعانيه حجة، ونقلت بها النسخ عدد حروفها.

وسار مسير الشمس في كل موضعٍ  وهبّ هبوب الريح في البر والبحر

وما رأيت ولا سمعت بمن أخذ جزءاً من ترسل، وقرأه على شيخ وحفظه وطلب به الرواية وعلق عليه حواشي لغة وإعراب ومعان. وقد وضع الناس الشروح المبسوطة على المقامات مثل المسعودي فإن له عليها شرحين، والمطرز وابن الأنباري وأبي البقاء وغيرهم ولقد رأيت بعضهم يزعم أنها رموز في الكيمياء، ويحكى أن الفرنج يقرؤونها على ملوكهم بلسانهم ويصورونها ويتنادمون بحكاياتها.

وما ذاك إلا أن هذا الكتاب أحد مظاهره تلك الحكايات المضحكة، والوقائع التي إذا شرع الإنسان في الوقوف عليها، تطلعت نفسه إلى ما تنتهي إليه، وتشوقت نفسه إلى الوقوف على آخر تلك القصة. هذا إلى ما فيها من الحكم والأمثال التي تشاكل كتاب كليلة ودمنة وإلى ما فيها من أنواع الأدب وفنونه المختلفة وأساليبه المتنوعة.

حكى لي الشيخ فتح الدين محمد بن سيد الناس عن والده أبي عمرو عن أبيه أبي بكر قال: قلنا لابن عميرة كاتب الأندلس: لأي شيء ما تصنع مثل المقامات؟ فقال: أما الألفاظ فما أغلب عنها، وأما تلك الأكاذيب التي تكذبها فما أحسن أن أضع مثلها.

وسمعت القاضي شهاب الدين محمودا رحمه الله تعالى حين قراءة هذا الكتاب عليه يحكي أن القاضي الفاضل رحمه الله تعالى أراد معارضتها، وصنع ثلاث عشرة مقامة عارض كل فصل بمثله حتى جاء إلى قول الحريري في المقامة الرابعة عشرة: اعلموا يا مآل الآمل وثمال الأرامل، أنني من سروات القبائل، وسريات العقائل. لم يزل أهلي وبعلي يحلون الصدر، ويسيرون القلب، ويمطون الظهر، ويولون اليد. فلما أردى الدهر الأعضاد، وفجع بالجوارح الأجساد، وانقلب ظهر البطن، نبا الناظر، وجفا الحاجب وذهبت العين وفقدت الراحة، وصلد الزند، ووهت اليمين، وبانت المرافق، ولم يبق لنا ثنية ولا ناب. فمذ اغبر العيش الأخضر، وازور المحبوب الأصفر، اسود يومي الأبيض، وابيض فودي الأسود، حتى رثى لي العدو الأزرق، فحبذا الموت الأحمر.

فقال الفاضل: من أين تأتي الإنسان بفصل يعارض هذا ? ثم إنه قطع ما كان عمله من المقامات ولم يظهر. أو كما قال. وناهيك بمن يقول مثل القاضي الفاضل في حقه مثل هذا، ويعترف له بالعجز.

وأما أنا فكلما قرأت هذا الفصل وذكرته، أجد له نشوة كنشوة الراح، وبهجة ولا بهجة الساري بطلعة الصباح. وفي أي ترسل تجد نظير هذا الفصل الذي له هذه الخفة والطلاوة، ولم تروجه الأسجاع ?.

وقد ظلم المقامات من جعلها من باب الترسل، والترسل جزء منها. بل هي كتاب علم في بابه، وبلاغة الرجل تعلم من ذكره لشيء في غالب مقاماته بالمدح والذم. وهذا هو البلاغة، أن تصف الشيء ثم تذمه، أو بذم ثم تمدحه، كما فعل في مقامة الدينار، والتي فاضل فيها بين كتابة الإنشاء والحساب، والتي ذكر فيها البكر والثيب والزواج والعزبة وغير ذلك.

وفصاحته تعلم من أخذه الأمثال السائرة وضمها إلى سجعة أحسن منها. كقوله: أعطيت القوس باريها وأنزلت الدار بانيها وقوله: تخلصت قابية من قوب وبرىء براءة الذئب من دم ابن يعقوب. وقوله: وهل ضاعت عدتنا عدة عرقوب أو بقيت حاجة في نفس يعقوب وقوله: فلما دل شعاعه على شمسه، ونم عنوانه بسر طرسه وقوله: فبقيت أحير من ضب وأذهل من صب وقوله: أنحل من قلم وأقحل من جلم وقوله: لو كان في عصاي سير ولغيمي مطير وقوله: طويته على غره، وصنت شغاه عن قره وقوله: إنكما فرقدا سماء وكزندين في وعاء وقوله ليعلم أن ريحه لاقت إعصاراً وجدوله صادف تياراً وقوله مأرب لا حفاوة ومشرب لم يبق له عندي طلاوة وقوله: المكنة زورة طيف، والفرصة مزنة صيف وقوله: أبعد من رد أمس الدابر، والميت الغابر وقوله: ما أطول طيلك وأهول حيلك وقوله: وكان يوما أطول من ظل القناة، وأحر من دمع المقلاة وقوله: فأخذ يلدغ ويصي، ويتقح ولا يستحيي وقوله: أين مدب صباك، ومن أين مهب صباك وقوله: قد وجدت فاغتبط واستكرمت فارتبط وقوله: ما ذهب من مالك ما وعظك، ولا أجرم إليك من أيقظك وقوله إنك حمت على ركية بكية، وتعرضت لخلية خلية وقوله ما كل سوداء، تمرة، ولا كل صهباء خمرة وقوله: كمن يبغي بيض الأنوق، ويطلب الطيران من النوق وقوله: أتعلم أمك البضاع وظئرك الإرضاع وقوله: فلما رأينا نارهم الحباحب، وخبرهم كسراب السباسب وقوله: إني لأطوع من حذائك، وأوفق من غذائك وفيها من هذا النوع كثير أضربت عنه خوف الإطالة.

وما تناهيت في بثي محاسنه  إلا وأكثر مما قلت ما أدع

 

ثقافة الكاتب

قال: فإذا ركب الله في الإنسان طبعا قابلا لهذا، فيفتقر إلى ثمانية أنواع من الآلات ثم سردها.

أقول: أما الكاتب فيحتاج إلى حفظ الكتاب العزيز وإدمان تلاوته، ليكون دائراً على لسانه، جارياً على فكرته، ممثلا بين عيني ذاكرته لينفق من سعته، وإلى معرفة اللغة والنحو وإدمان الإعراب ليلا ونهارا ، حتى يصير له ذلك ملكة جيدة، والتصريف والمعاني والبيان والبديع والعروض والقافية والأحكام السلطانية كما ذكر في كتابه وشيء من التفسير، وشيء من الأحاديث مثل كتاب الشهاب أو كتاب النجم للأقليشي، والآثار المنقولة عن الصحابة رضوان الله عليهم وما دار بين الخلفاء الراشدين وعمالهم، وما دار بين علي ومعاوية رضي الله عنهما من المحاورات، وتواقيع الخلفاء والوزراء والكتاب، وأمثال العرب، وحفظ جانب جيد من شعر العرب والمخضرمين والمحدثين وفحول المتأخرين، وحفظ جيد الحماسة ومختار المفضليات، وبعض قصائد منتهى الطلب جمع ابن ميمون، وما أمكن من التاريخ وأسماء الرجال والحساب، ومراجعات أمهات كتب الأدب، مثل الأغاني والعقد والبيان والتبيين والذخيرة وزهر الآداب وأمالي القالي والكامل للمبرد وتذكرة ابن حمدون وحفظ جانب جيد من المقامات والخطب النباتية، وبعض شعر المتنبي وأبي تمام والبحتري وسقط الزند وغير ذلك. وقد اخترت أنا من شعر هؤلاء الشعراء الأربعة في مجلدة لطيفة، والوقوف على ترسل الكتاب ومراعاة ما قصدوه في كل فن: من التهاني والتعازي والفتوحات ووصايا تقاليدهم وتواقيعهم وأوامرهم ونواهيهم فيها، وافتتاحات أدعيتهم في كل ما يتشعب من طرق الكتابة وكيفية البداءات والمراجعات في الهدايا والشفاعات والأوصاف وكتب الإخوان وما يجري هذا المجرى. وهذا باب لا يغلق له مصراع ولا ينعقد على حصره إجماع.

وعلى الجملة، فالكاتب يحتاج إلى كل شيء، ولولا أنه لا يلزمه تحقيق كل فن لقلت إنه الذي يعرف الوجود على ما هو عليه. وهيهات.

نعم الناس متفاوتون في ذلك وهم على طبقات: فمنهم من تسنم الدرجات، ومنهم من لا نهض من الدركات، وما بين ذلك. ولا بد من المشاركة مهما أمكن، ولو أنه معرفة لمصطلح لكل صاحب فن، وإذا كمل مواده أو قارب الإكمال، فمعرفة مصطلح الديوان في المكاتبات من معرفة الألقاب والنعوت وما يجري هذا المجرى. فإن هذا معرفته مع المباشرة في أقل من جمعة يتصوره ويدريه، وهو مما لم يتقرر قاعدته، لأنه يختلف باختلاف كل زمان وأهله. وهذا لا عبرة به، فإنه أسهل ما يعرفه.

 

هل تضر مخالفة النحو في معنى

قال وقد ذكر النحو: إذا نظرنا إلى ضروبه وأقسامه، وجدنا أكثرها غير محتاج إليه في إفهام المعاني. ألا ترى أنك لو أمرت رجلا بالقيام فقلت: قوم بإثبات الواو ولم تجزم لما اختل من فهم ذلك شيء. وكذلك الشرط والفضلات كلها تجري هذا المجرى من الحال والتمييز والاستثناء وساق أشياء من هذه الأنواع.

أقول: ما يورد مثل هذا إلا عوام الناس ومن لم يتلبس بالمعرفة، ومن لم يرح رائحة العلم. ألم يعلم أنه إذا صدر عن مترسل كتاب لم يجزم أفعال أمره ولا شروطه وجوابها، ولم يرفع فاعله وينصب فضلاته، ولا راعي شيئاً من قواعد إعرابه التي هي ظاهرة، ولا حافظ على شيء من الإعراب ألبتة، كان ذلك ضحكة للمغفلين فضلا عن العقلاء. وحينئذ فقد استوى العلماء والجهال.

وقد كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: أما بعد فتفقهوا في السنة وتعلموا العربية وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يضرب ولده على اللحن.

وقال عبد الملك: اللحن في الكلام أقبح من آثار الجدري في الوجه. ورأى أبو الأسود الدوءلي أعدالا للتجار مكتوب عليها لأبو فلان. فقال: سبحان الله يلحنون ويربحون. ويقال: من أحب أن يجد الكبر في نفسه فليتعلم العربية.

ألم يعلم أن بعضهم استدل على أن النحو فرض كفاية إن لم يقل إنه فرض عين، وذهب بعضهم إلى أن الله تعالى لا يقبل الدعاء إذا لم يكن معربا. وقال الشيخ تقي الدين ابن الصلاح: أخشى على من تعاطى الحديث ولم يدر النحو، أن يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: من كذب علي متعمدا، فليتبوا مقعده من النار.

ثم إنه استثنى أشياء من ذلك لا تعرف إلا بالإعراب. فأقول: إنه لا يتوصل إلى معرفة الغامض إلا بعد معرفة الواضح، ومن لم يعرف البين لم يعرف العويص، لينتقل في التفهم من الأدنى إلى الأعلى.

قال الخليل بن أحمد رحمه الله: لا يصل أحد من النحو إلى ما يحتاج إليه إلا بتعلم ما لا يحتاج إليه، فقال أبو عمر: إن كان لا يوصل إلى ما يحتاج إليه إلا بما لا يحتاج إليه، فقد صار ما لا يحتاج إليه محتاجا إليه. وكل علم بهذه المثابة فيه الجلي والغامض في الفقه، فإن مسائله الغامضة في الحيض والتيمم وللفرائض، وما في الجبر والمقابلة، ومسائل الدور في الطلاق وغير ذلك. وكما في المنطق فإن غوامضه في الأقيسة والمختلطات والمغالط وغير ذلك. وكما في علم الكلام من إثبات الجوهر الفرد، وأن العرض لا يبقى زمانين، وأن المعدوم ليس بشيء. وما يتوصل الإنسان إلى معرفة هذه المسائل العويصة إلا بعد مقدمات يفهمها من المسائل الواضحة، وما رأيت من يورد مثل هذا غير العوام، أو من يجهل هذا الفن.

 

هل يقدح اللحن في حسن الكلام

قال بعد أن ساق شيئاً من نظم أبي نواس وأبي تمام وأبي الطيب ولحنهم: إن اللحن لم يكن قادحاً في حسن الكلام.

أقول: ما بقي بعد هذا إلا أن يقول: إن مراعاة الإعراب علة موجبة لقبح الكلام أتراه ما سمع بقولهم: النحو في الكلام كالملح في الطعام. وقد ذهب بعضهم إلى أن الإعراب إنما سمي إعرابا لأن العرب في قوله تعالى: "عرباً أتراباً" هن المتحببات إلى أزواجهن، فكأن من أعرب كلامه تحبب إلى مخاطبه. أقول: معنى تحببه كونه ذكر أمارات تدل على معانيه. فإنه إذا أراد التعجب قال: ما أحسن زيداً، ولو ترك الإعراب وقال: ما أحسن زيد بسكون النون والدال، لالتبس الفهم على المخاطب وبقي في حيرة: هل هو مستفهم أو متعجب أو مخبر. فلما نصب النون والدال علم أنه يتعجب. وإذا قال: ما أحسن زيد برفع النون وكسر الدال علم أنه يستفهم. واذا قال ما أحسن زيد بنصب النون ورفع الدال علم أنه مخبر بنفي الإحسان عنه. واذا أراح المتكلم من يخاطبه من الفكرة والحيرة بالإعراب، فقد تحبب إليه.

وقد قال ..... لا قدر للحان ولو بلغ يافوخه عنان السماء وأنا فما أنكر أن لطف التركيب وسهولة الكلام أمر آخر وراء النحو. هذا معلوم ولكن المشاحة في تعسفه وتعنته.

 

حول لون البقرة في الآية صفراء فاقع لونها

قال: وكان فاوضني بعض الفقهاء في قوله تعالى في سورة البقرة: "صفراء فاقع لونها"، إن لون البقر كان أسود. وأخذ في الشناع على ذلك والاستدلال على أن اللون أصفر.

أقول: من المعلوم أن الأرجح هو أن اللون كان أصفر، لكونه مؤكداً بفاقع. كما يؤكد أسود بحالك وحانك، وأبيض بيقق ولهق، وأحمر بقان وذريحي وأخضر بناضر ومدهام، وأصفر بناصع وفاقع ووارس، وأزرق بخطباني، وأرمك برذاني. ولكن إذا ورد التفسير وثبت النقل بشيء، فما يمكن غير قبوله والعمل به في موضعه من غير أن يتعدى به ذلك الموضع. هذا إذا خالف قاعدة، وإن أمكن ترجيحه رجح، كما رجح هذا بعضهم بقوله تعالى: "إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالات صفر". أي جمال سود تضرب إلى الصفرة. قالوا: والنار سوداء مظلمة.

 

التأدب في الحديث عن العظماء

قال عند ذكر وقائع العرب: ومن ذلك أنه ورد عن عمر بن الخطاب أنه استدعى أبا موسى الأشعري ومن يليه من العمال، وكان منهم الربيع بن زياد الحارثي، فمضى إلى يرفأ، مولى عمر، وسأله عما يروج عنده وينفق عليه، فأشار إلى خشونة العيش. فمضى ولبس جبة صوف وعمامة دكناء وخفا مطابقا وحضر بين يديه في جملة العمال. فصوب عمر نظره وصعده فلم يقع إلا عليه، فأدناه وسأله عن حاله ثم أوصى أبا موسى الأشعري به.

ثم قال ابن الأثير: وقد استعملت أنا هذا في تقليد لبعض الملوك من ديوان الخلافة، فقلت: واذا استعنت على عملك بأحد، فاضرب عليه بالأرصاد، ولا ترض بما عرفته من مبدا حاله، فإن الأحوال تتنقل تنقل الأجساد، وإياك أن تخدع بصلاح الظاهر كما خدع عمر بن الخطاب بالربيع بن زياد.

أقول: قوله كما خدع عمر، في هذا القول إساءة أدب على عمر رضي الله عنه من نسبته إلى أنه خدع، وفي هذا شبهة لصاحب التقليد، فإنه يقول في نفسه: وإذا كان مثل عمر خدع، فما ظني بنفسي، فيقع منه الإهمال. والآدب في مثل هذا أحسن، ودفع الانخداع عنه أليق. ألا ترى إلى قوله تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام: "من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي"، فنسب ما وقع بينهم إلى الشيطان تأدباً مع إخوته عليهم السلام. وإذا خدع مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع تحرزه وشدته في الدين، فما يظن بغيره.

وقال المغيرة بن شعبة: ما رأيت أحدا أحزم من عمر. كان والله له فضل يمنعه أن يجزع، وعقل يمنعه أن يخدع.

قال أبو بكر الخرائطي: رحم الله عمر ما كان أنظره بنور الله في ذات الله وأفرسه. كان والله كما قال الشاعر: بصيرٌ بأعقاب الأمور بـرأيه  كأنّ له في اليوم عينا إلى غد 

وقد نقل عن أبي العباس أحمد بن عبد الله بن الحطيئه أنه كان يقول: أدرجت سعادة الإسلام في أكفان عمر بن الخطاب.

وما أحسن قول الشاعر:

حججي عليك إذا خلوت كثيرةٌ  وإذا حضرت فإنني مخصوم

لا أستطيع أقول أنت ظلمتني  الله يعلم أنّنـي مـظـلـوم

فانظر إلى أدب هذا الشاعر وتلطفه مع محبوبه وإجلاله له.

وكان الأحسن أن لو قال: وإذا استعنت على عملك بأحد، فلا تثق منه بلمع السراب، واكشف بيد إرصادك عن وجه سيرته حجاب النقاب، وتيقظ لأموره فلا ترض بالظاهر العامر وتنسى الباطن الخراب، وتخيل من مكره ما تحيل به الربيع بن زياد على عمر بن الخطاب. فإن نسبة الحيلة إلى الربيع أحسن في الأدب من نسبة الخدع إلى عمر رضي الله عنه.

 

إنكار التلقب بالناصر على السلطان صلاح الدين

قال: وجدت لابن زيادة البغدادي كتاباً كتبه إلى الملك الناصر صلاح الدين يشتمل على أمور أنكرت عليه من ديوان الخلافة. من ذلك أنه تلقب بالناصر وذلك لقب أمير المؤمنين.

ثم إن ابن الأثير استصلح الكتاب وقال: لم أجد فيه مغمزاً إلا في هذا الفصل الذي يتضمن حديث اللقب، فإنه لم يأت فيه بكلام يناسب باقي الفصول المذكورة، بل أتى بكلام فيه غثاثة كقوله: ما يستصلحه المولى على العبد حرام وشيء من هذا النسق.

ثم إن ابن الأثير رحمه الله ذكر ما أنشأه في هذا المعنى لنفسه قال: قد علم أن للأنبياء والخلفاء خصائص يختصون بها على حكم الانفراد، وليس لأحد من الناس أن يشاركهم فيها مشاركة الأنداد. وقد أجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في أشياء نص عليها بحكمه، من جملتها أنه نهى غيره أن يجمع بين كنتيه واسمه، وهذا مسوغ لأمير المؤمنين أن يختص بأمر يكون به مشهوراً وعلى غيره محظوراً.

وساق باقي السجع وليس فيه زبدة فأثبته. أقول: قبل الخوض معه أقدم الفرق بين الاسم والكنية واللقب.

وذلك أن العلم الدال على شخص معين إن كان مصدرا بأب كأبي بكر وأبي حفص، أو بأم كأم كلثوم وأم البنين وأم المؤمنين فهو الكنية. وإن أشعر برفع المسمى كماء السماء وذي رعين وذي النورين وذات النطاقين وذي الجناحين، ويدخل في هذا ألقاب الخلفاء بني أمية وبني العباس، كالهادي والمهدي والرشيد والأمين والمأمون، ويدخل فيه مصطلح الناس، من شمس الدين وبدر الدين ونجم الدين وغير ذلك من ألقاب أهل الكتاب كشمس الدولة وتاج الملك. أو يشعر بضعة المسمى كففة وبطة والأقيشر والأحوص فهذا هو اللقب. وإن كان للدلالة على ذات المسمى وتعيينه، كزيد وعمرو وبكر وخالد فهذا هو الاسم.

وإذا تقرر هذا، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي" مراده لا أبا بعد أن كان يدعى ابنا، ويتقمص من المشيب ثوباً لا يجتر ذيله خيلاء ولا يزهى به حسنا. وإن قيل إن أحسن الثياب شعاراً البياض قيل: إلا هذا الثوب فإنه مستثنى، ويكفيه من الفظاعة أنه ينظر الأحباب إليه نظر القال، ولولا أن الخمود بعده لما استعير له لفظ الاشتعال. ومن الناس من يدلس لونه بصبغة الخضاب، وليس ذلك إلا حدادا على فقد الشباب، وهو في فعله هذا كاذب ولا يخفى أنس الصدق من وحشة الكذاب. وخداع النفس أن تسلو عن بسره المعطلة وقصره المشيد، ويحسن لها الخروج في ثوب مرقع وهي تراه بعين الثوب الجديد ثم قال وبعض هذا مأخوذ من شعر ابن الرومي. وهو قوله: رأيت خضاب المرء بعد مشيبه  حدادا على شرخ الشبيبة يلبس

غير أن في هذا الفصل معاني كثيرة لا توجد في كلام آخر.

أقول: قد ادعى أنه ابتكر ما فيه هذا الفصل من المعاني، وأنا أذكر أبياتا تدل على أخذ كلامه منها.

قال أبو الطيب:

آلة العيش صحةٌ وشباب  فإذا وليّا عن المرء ولّى

وقال التهامي أيضاً :

وطري من الدّنيا الشباب وروقـه  فإذا انقضى فقد انقضت أوطاري

وقال ابن أبي حصينة:

كأنّ الفتى يرقى من العيش سلّما  إلى أن يجوز الأربعين وينحطّ

وقال سبط التعاويذي:

وعلو السن قد كـس  ر بالشيب نشـاطـي

كيف سـمـوه عـوا  وهو أخذٌ في انحطاط

وقال أبو الطيب في معنى أن زيادة التصغير نقص:

وكان ابنا عدو كاثـراه  له يائي حروف أنيسيان

وما أحسن قول ابن قلاقس:

في أمر توقيعي وأمـري سـيرةٌ  أعيت على الفطن الفصيح الألسن

حكمت زيادته عليه بـنـقـصـه  كالضيف لما ازداد نون الضّيفـن

وقال أبو الطيب:

متى لحظت بياض الشّيب عيني  فقد رأت انتقاصي في ازديادي

وقال ابن صردر:

لم أبك أن حلّ المشيب وإنما  أبكي لأن يتقارب الميعـاد

شعر الفتى أوراقه فإذا ذوى  جفّت على آثاره الأعـواد

وقال ابن عبد ربه:

وإذا دعونك عمّهنّ فإنـه  نسبٌ يزيدك عندهن خبالا

وقال أبو الطيب:

أبعد بعدت بياضا لا بياض لـه  لأنت أسود في عيني من الظلم

وقال الغزي:

أوهنت زهرة الـحـياة وأذوت  زهرة العيش زهرةٌ في القذال

كاد يخفى عليّ قبل اشتعال ال  رأس أن الخمود في الاشتعال

قال: ومن هذا المعنى قولي أيضاً : وهو أخذ المكارم من سمائها وأرضها، وقام بنقلها في الناس وفرضها، وتحلى بأسماء الشهور حتى أصبح بعضها حاسدا لبعضها. فالمحرم للعائذ بحرمه، وصفر للطامع في مسعاة قدمه، وربيع لرائد نواله، ورجب لأقوال عذاله. وهذا مأخوذ من قول الفرزدق.

يداك يدٌ ربـيع الـنـاس فـيهـا  وفي الأخرى الشهور من الحرام

وقد قال الشعراء في ذلك كثيرا، ولكني أنا تصرفت تصرفا لم يتصرفه أحد غيري.

أقول: أي تصرف، وما نكر شيئاً إلا وتعرف. وقد استعمل الناس أسماء الشهور فجاؤوا بها عذبة حلوة متمكنة. كقول القائل في بخيل:

تحلّى بأسماء الشهور فـكـفّـه  جمادى وما ضمت عليه المحرم

وقال الآخر فأحسن كل الإحسان.

وشادن مبتسم عن حـبـب  مورّد الخد مليح الشـنـب

يلومني العاذل في حـبـه  وما درى شعبان أني رجب

كانت العرب تسمى شعبان العاذل، قبل الإسلام، ورجب الأصم.

وما أحسن قول القاضي الفاضل رحمه الله: تولى الله تحقيق مقصده، وترويق مورده، وتشييد مباني أسعده، وتخليد مغاني سؤدده، حتى تنتظم مواهب الله لديه مثنى وفرادى، ويلبس أمن رجب في شعبان وخصب ربيع في جمادى.

وقوله أيضاً : فهو الماء إلا أنه الزلال، والسحر إلا أنه الحلال، والورد النضر إلا أنه بعيد العهد من الملال، وأيام الوقوف عليه أيام أعياد بين طهارة رمضان وخصب شوال. وقوله أيضاً ويعود إلى ذكر كتابه: فسجد لمحرابه وسلم، وحسب سطوره مباسم تتبسم، ووقف عليه وقوف المحب على الطلل يكلمه ولا يتكلم، وهطل جفنه وقد كان جمادى بدمعه وقد كان على خده المحرم.

وقول ابن سناء الملك:

نشيطة حسن القد والخد والحلـى  فلم زعموا أن المليحة مكسـال

أطلّ على نسكي بها جهل صبوتي  فيا رمضان قد أظـلّـك شـوال

وأما استعمال أسماء الشهور موراة، فمن أحسنها قول القاضي محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر:

إياكم أن تنكروا جعفرا  ذاك الخياليّ وأصحابه

فنيل مصرٍ كم له جعفرٌ  مخيّل يخرج في بابـه

ما أصنع هذين البيتين وألطف هذا التخيل.

وقول ابن قزل:

قد ضجرنا من ماء تل العجول  وكرهنا سماع قـالٍ وقـيل

ومن المحنة التي نحن فـيهـا  حر تمـوز آب فـي أيلـول

وقول أسعد بن مماتي:

قد نفث السحر السحر  وأشبه الزهر الزهر

وبلّ كافور الـنـدى  ثياب أوراق الشجـر

والعندلـيب مـذ رأى  محرّم الروض صفر

وقول السراج الوراق من أبيات:

وأراد اطفاء الـسـرا  ج بها فضاعفت التهابه

وحوى بها طوبى فصا  ر حديثنا في الناس بابه

وقول ابن الساعاتي:

ليوسف يوسفٌ إن أزمةٌ عرضت  يخشى فيرجى وفي أحكامه عمر

كل الشهور ربيعٌ من فواضـلـه  حيث الخزائن من أمواله صفـر

 

مناقشة مثال لابن الأثير

قال: ومن ذلك ما ذكرته في استصلاح مودة وساق الفصل وفي آخره: والصبر خير ما استعمل في جفاء الإخوان، والماء إذا جرى في مكان ثم انحرف عنه فلا بد وأن يعود إلى ذلك المكان.

أقول: ما أدري ما معنى هذا. فإن الماء إذا انحرف عن مكان، إنما ينحرف باستفال الموضع الذي انحرف إليه عن الموضع الذي انحرف عنه. إما بأخدود يحفر، أو بتهدم من نفس الأرض. وحينئذ يرجع الماء القهقرى وينعطف عن المرتفع، وينحدر إلى المنخفض. هذا الذي يفهم من لفظة انحرف الماء. ومتى كان الأمر كذلك فلا يعود الماء إليه، اللهم إلا أن يدعي أن مدد الماء يقوى دفعه فيزيد إلى أن يعلو المنخفض، ولم يجد له حيزا يشغله غير ذلك الذي انحرف عنه. وهذا غير مفهوم من مجرد كلامه.

ولو قال: فإن الغيث إن أقلع صوبه عن مكان، فلا بد وأن يعود في وقت إلى ذلك المكان. أو فإن الماء إذا جفا موضع جريته في وقت، فلا بد أن ينعطف على ذلك المكان. أو إذا قطعت سقياه عن مكان أو ما ناسب ذلك، غير لفظة انحرف.

وما أحلى قول القاضي الفاضل: وقد يعود الماء إلى مشرعه، والكوكب إلى مطلعه.

وما أحسن قول القائل في معنى قول ابن الأثير:

سأصبر صبر الحر من غير قـدرةٍ  على الصبر لكن من طريق التجمّل

لعـلـك يومـاً أن تـردّك رحـمةٌ  عليّ فتلقاني بوجه الـتـفـضـل

 

مناقشة مثال آخر لابن الأثير

قال: ومن ذلك ما ذكرته في وصف الخمر وهو: الخمر لا تفي لذة إسكارها بتنعيص خمارها، فهي خرقاء البنان، بذيئة اللسان، وتأنيثها يدلك أنها من ناقصات العقول والأديان. وقد عرف منها سنة الجور في أحكامها، ولولا ذلك لما استأثرت من الرؤوس بجناية أقدامها. وهذا أحسن من قول الشاعر وأغرب وألطف، لأنه قال:

ذكرت حقائدها القديمة إذ غدت  زمنا تداس بأرجل العصّـار

لانت لهم حتى انتشوا وتمكنت  منهم فصاحت فيهم بالـثـار

أقول: أما إضافة البنان واللسان والعقل والدين إلى الخمر، فإنه من الغريب وأغرب من ذلك أن جعل للرؤوس أقداما، وأغرب من هذين كونه يدعي أن كلامه ألطف وأحسن وأغرب من قول الشاعر، والفرق مثل الصباح ظاهر. وكأنه أراد أن يد معاقرها خرقاء، ولسانه بذيء، وعقله ودينه ناقصان ولو نسب ذلك إلى الندمان في ذم الخمر لكان قادحا فيها. وإنما إضافة الجوارح والعقل والدين إليها فغير جائز إلا بتأويل بعيد إلى الغاية.

وما أحسن قول أبي تمام:

خرقاء يلعب بالعقول حبابها  كتلاعب الأفعال بالأسماء

وقول القائل:

وصف المدامة شاربوها أنها  تحوي السرور وتطرد الهمّا

صدقوا هفت بعقولهم وبدينهم  أرأيت عادم دين مغتـمـا

وقول ابن سناء الملك:

عروسكم يا أيها الشرب طالـقٌ  وإن فتنت من حسنها كلّ مجتلي

دفعت لها مالي وعقلي معجّـلا  فقالت وجنات النعيم مؤجـلـي

قيل: إن سليمان بن عبد الملك ناول نصيبا قدحا . فقال. يا أمير المؤمنين، إنما وصلت إليك بعقلي فإن رأيت أن لا تفرق بين عقلي وبيني فعلت وقول السراج الوراق.

شؤم أم الخبائث الخمر شومٌ  جاوز الحد فاستمع ما يعدّ

فلها في الدنان حبسٌ وللرا  ووق صلبٌ وللمعاقر جلد

وأما قوله: فاستثأرت من الرؤوس بجناية أقدامها. الضمير لا يخلو: إما أن يعود إليها أو إلى الرؤوس وكلاهما غير جائز.

وما أحسن قول ابن زهر إلا شبيلي:

وموسّدين على الأكف خدودهـم  قد غالهم في السّكر ما قد غالني

ما زلت أسقيهم وأشرب فضلهم  حتى سكرت ونالهم ما نالـنـي

والكأس تعلم كيف تأخذ ثـارهـا  إني أملت إناءها فـأمـالـنـي

وقال أبو تمام من قصيدة:

إذا اليد نالتـهـا بـوتـرٍ تـوقّـرت  على ضغنها حتى استقادت من الرجل

وتصرع ساقيها بإنصاف شـربـهـا  وصرعهم بالجور في صورة العـدل

وأما قوله: وتأنيثها يدلك أنها من ناقصات العقول والأديان. ما أحسن ما استعمل المتنبي هذا في وصف الدنيا فقال:

شيم الغانيات فيهـا فـمـا أد  ري لذا أنث اسمها الناس أم لا

قال: ومن ذلك ما ذكرته في الحث على الاغتراب وهو: لولا التغرب ما ارتقت بنات الأصداف إلى شرف الأعناق، ولا ارتقى تراب الأحجار إلى نور الأحداق ثم قال: وكذلك قولي في هذا المعنى وهو: في الانتقال تنويه لخامل الأقدار ولولا ذلك لم يكنس الهلال حلة الإبدار، والمندل الرطب حطب في أوطانه، والمسك دم في سرر غزلانه، ولولا فراق السهم وتره لم يحظ بفضل الإصابة، ولولا فراق الوشيج منبته لم يتحل بعز البنان ولا شرف الذؤابة.

وهذا الفصل فصل من القول في معناه، ومما لم يتسن للخواطر ابتناء مبناه. فمنه ما هو مأخوذ من الشعر، ومنه ما سنح به الخاطر على غير مثال وهو يشهد لنفسه.

أقول: قوله ارتقت أولا ، وارتقى ثانيا فيه عي لتكراره. ولو قال في أحدهما ما اتصل أو ما سما أو غير ذلك لكان أحسن. وكذا ابتناء مبناه، ومثل هذا يعاب في الكلام. وقد عيب على الصاحب بن عباد قوله:

أشبّب لكن بالمعـالـي أشـبـب  وأنسب لكن بالمفاخر أنـسـب

وبي صبوةٌ لكن إلى حضرة العلا  وبي ظما لكن من العز أشـرب

وسميت القصيدة اللاكنية لكثرة ترداد لكن فيها.

وكل هذه المعاني تداولها الشعراء وأكثروا منها. من ذلك قول ابن صردر:

قلقل ركابك في الفـلا  ودع الغواني للقصور

لولا التغرب ما ارتقى  درّ البحور إلى النحور

وقول سبط التعاويذي:

قالوا انتزح وتغرب تكتسب شرفا  فالدر ما عزّ حتى فارق الصدفا

وقول ابن قلاقس:

سافر إذا حاولت قـدرا  سار الهلال فصار بدرا

والماء يكسب ما جـرى  طيبا ويخبث ما استقرا

وبنقلة الدرر الـنـفـي  سة بدّلت بالبحر نحـرا

وابن قلاقس وابن الأثير رحمهما الله تعالى من أهل عصر واحد. فإن ابن قلاقس توفي سنة سبع وستين وخمسمائة. وابن الأثير توفي سنة سبع وثلاثين وستمائة ومولد ابن قلاقس سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، ومولد ابن الأثير سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. فعمر ابن الأثير أكثر.

وقول ابن الساعاتي وهو من أهل عصره:

وكن غانيا عن كل أرض بأختها  وإن حلّ مغناها كواعب عـين

فلولا فراق الدّر أصداف بحره  لأنكره نحرٌ وصـدّ جـبـين

وقول القائل:

الأسد لولا فراق الغاب ما افترست  والسهم لولا فراق القوس لم يصب

والتّبر كالتّرب ملقى في مواطنـه  والعود في أرضه نوعٌ من الحطب

وقول أبي العلاء المعري:

والسمهرية ليس يشرف قدرها  حتى يسافر لدنها عن غابـه

وقلت أنا من هذه المادة:

سافر تنل عزا فما مسك الورى  إلا دما في سـرة الـغـزلان

والرمح لما فارق الوطن اغتدى  بذؤابة خفقت وتـاج سـنـان

وقلت أيضاً :

سافر تنل رتب المفاخر والعـلا  كالدر سار فصار في التيجـان

وكذا هلال الأفق لو ترك السرى  ما فارقته معرة النـقـصـان

قال: ومن ذلك ما ذكرته في ذم الدنيا وهو: أنكاد الدنيا مشوبة بالأشياء التي جبلت النفوس على حبها، وكل ما تستلذه الأبدان من مآكلها فإنه يضرها من جهة طبها، ولهذا تذمم من منفعة الهليلج ومضرة اللوزينج. وأعجب من ذلك أنه لا ينتفع الإنسان بشيء من لذتها إلا ضرته من جهة ثوابه، فهو كالذي ينتفع باصطلاء النار وهي محرقة لأثوابه. وقد ضرب لذلك مثل من الأمثال، وقيل إن كل ما ينفع الكبد مضر بالطحال.

أقول: انظر إلى هذه الركة والعامية، ألا تراه أشبه بشيء بكلام العجائز قوابل النساء إذا أخذن يعظن ويضربن الأمثال، أكذا توصف الدنيا في حالة الذم: أتراه ما سمع بشيء من كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا قال له رجل: صف لنا الدنيا فقال: ما أصف من دار أولها عناء، وآخرها فناء، حلالها حساب وحرامها عذاب، من استغنى فيها فتن ومن افتقر حزن ولا بشيء من بعض أقوال الحكماء فيها كقول بعضهم: الدنيا أمل بين يديك، وأجل مطل عليك، وشيطان فتان، وأماني جرارة العنان، تدعوك فتستجيب، وترجوها فتخيب.

أما سمع بزهديات أبي نواس التي منها:

وما الناس إلا هالك وابن هالكٍ  وذو نسبٍ في الهالكين عريق

إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشفت  له عن عدوٍ في ثياب صديق

حتى إن الرشيد أو المأمون قال: لو وصفت الدنيا نفسها، ما وصفت بأكثر من قول أبي نواس. أما سمع بشيء من أقوال أبي العتاهية، وصالح ابن عبد القدوس ومحمود الوراق، ومن تعرض لذمها من الشعراء كالمتنبي وأبي تمام وغيرهما.. أما سمع بقول الزمخشري تحلين لهم ثم تمرين، وتحلين لهم ثم تمرين. الأول من الحلاوة والمرارة، والثاني من الحلول والمرور. أما وقف على رسائل المعري في ذم الدنيا. أليس يقول في بعض رسائله: فلو كانت الدنيا عروسا لطلقت ولكنها أم أملقت، يحبها ولدها على العقوق، وتصدهم عن إدراك الحقوق، مالنا ومالك أم دفر أما أما يقنعك هلاك الوفر: أعييتني بأشر، فكيف بدردر. سؤتني غانية، فكيف بك عجوزا فانية، وهيهات ما أصابك الهرم ولا البرم، وإنما ذلك لأبنائك الذين شربوا من إنائك... وهي طويلة أتى فيها على ذكر من درج من أعيان الأمم. وهي من الرسائل الطنانات.

ويقول ابن الشبل البغدادي.

إنما نحن بين ظـفـر ونـابٍ  من خطوب أسودهن ضـراء

نتمنى وفي المنى قصر العـم  ر فنغدو كما نـسـر نـسـاء

صحة المرء للسّقـام طـريقٌ  وطريق الفناء هذا الـبـقـاء

بالذي نغتذي نمـوت ونـحـيا  أقتل الدّاء للنـفـوس الـدواء

ما لقينا من غدر دنيا فـلا كـا  نت ولا كان أخذها والعطـاء

صلفٌ تحت راعـد وسـراب  كرعت منه مومسٌ خـرقـاء

راجعٌ جودها عليها فمـهـمـا  يهب الصبح يستردّ المـسـاء

وقليلا ما تصحب المهجة الجس  م ففيم الشقاء وفيم الـعـنـاء

قبح الـلـه لـذةً لـشـقـانـا  نالـهـا الأمـهـات والآبـاء

نحن لولا الوجود لم نألم الفـق  د فإيجادنـا عـلـينـا بـلاء

دع كل ذا. أما وقف على الخطب النباتية ورأى كلامه فيها ويحذو حذوه ويتلو تلوه حتى يقول: الهليلج واللوزينج والكبد والطحال. والناس يذكرون مثل هذا، ولكن يدرجونه في عبارة تكون مفحلة لها وقع في النفس.

قال: ومن ذلك ما ذكرته في الزهد وهو: الناس في الدنيا للساعة الراهنة، كما أن النفوس ليست فيها بقاطنة.

أقول: ما أدري معنى التشبيه هنا ما هو.. ووجه العلاقة في ذلك. فإن قوله: كما، الكاف للتشبيه ولا نسبة بين: أنهم أبناء الساعة الراهنة، وبين أنهم يزولون. ولو حذف لفظة كما لاستقام المعنى، لأنه يعود: والنفوس فيها ليست بقاطنة.

ألا ترى أن بعض الناس عاب على أبي الطيب قوله:

لبس الثلوج بها عليّ مسالكي  فكأنها ببياضـهـا سـوداء

وكذا الكريم إذا أقام ببـلـدةٍ  سال النّضار بها وقام الماء

وقال: بأي شيء شبه إقامة الكريم وما تقدمه ما يناسب ذلك: والجواب عن ذلك: إنه لما قال إن الثلوج سدت المسالك عليه فرجعت ببياضها سوداء. شبه ذلك بالحالة التي تكون للكريم أنه يسيل به جامد النضار ويجمد مائع الماء. فهذا الاتضاد كذاك. وهذا الموطن مما يسأل عنه من شعر المتنبي.

قال في آخر هذا الفصل: وغاية مطلوب الإنسان أن يمد له في عمره، ويملى له في امتداد أثره. أما تعميره فيعترضه المشيب الذي هو عدم في وجود، وهو أخو الموت في كل شيء إلا في سكنى اللحود، والجوارح التي يدرك بها الشهوات ترى وكل منها قد تحول، وأصبح كالطلل الدارس الذي ليس عنده من معول. فلا ليلى بليلي ولا النوار، ولا الأسماع الأسماع ولا الأبصار الأبصار.

أقول: وهذا من ذلك النمط في الركة والسماجة، خصوصا هذا الأخير: لا يخفى على من كان عنده أدنى نباهة ويسير ذوق انحلال هذه الألفاظ وسقوطها. وكأنه أراد أن يحذو حذو أبي تمام حيث قال:

لا أنت أنـت ولا الـدّيار ديار  جفّ الهوى وتقضّت الأوطار

ولكن أين الثرى من الثريا، ويا بعد ما بين القفا والمحيا. ومن النصف الثاني تعلم فائدة التكرار في النصف الأول.

ومن العجيب أنه قال في النوع الرابع في توكيد الضميرين، وقد أورد قول أبي الطيب:

قبيلٌ أنت أنت وأنت منهم  وجدك بشرٌ الملك الهمام

لم أورده اختيارا له، وإنما مثلت به ليعلم توكيد المنفصل بالمنفصل. وإلا فالبيت ليس بالمرضي لأن سبكه سبك عار من الحسن.

أقول: فليت شعري أي طلاوة على قوله هو: أما أبو تمام فإنه خاطب نفسه كالمنكر ما كان منه في شغفه بتلك الديار التي وقف عليها بعد سلوه وتقضي أوطاره. وحق له أن يقول: لا أنت ذاك الذي كنت أولا ، ولا هذه الديار تلك التي كانت أولا . يعني كأن نفسه أصبحت غير تلك والديار بدلت بصفة أخرى.

وما أحسن قول الحظيري الوراق:

تركتك فامض إلى من تحبّ  ففعلك برّد نار الـجـوى

وقبّحك الغدر في ناظـريّ  وغودر عود الهوى قد ذوى

وصرت أراك بعين السلـوّ  وكنت أراك بعين الهـوى

ومن المعلوم أن العين ما تغيرت في ذاتها، ولا كانت ثم عين وبدلت غيرها. إنما السلو أوجب أن يريه بعين القبح، والحب أوجب أن يريه بعين الحسن.

ومن هذا قول....

وعين الرضى عن كل عيبٍ كليلةٌ  كما أن عين السّخط تبدي المساويا

وهذا دائر على ألسنة الناس. يقولون في من يتغير عليهم منه صفة من الصفات: كأنه راح وجاء غيره. وهذا من أبي تمام في غاية الحسن في بابه.

وأما قول أبي الطيب، فتحته من المعنى ما يكسوه حسنا فائقا ، لأن هذا من أمدح ما يكون للقبيلة التي ذكرها، لأنه قال: قبيلة أنت منهم، وأنت أنت، معناه: فيا لها من قبيلة لأنها أنت منهم وأنت ذاك العظيم. فأخر المعطوف عليه عن المعطوف كقوله:

... ... ...  عليك ورحمة الله السلام.

وقدرة الشيخ تاج الدين الكندي تقديرا آخر، وهذا أحسن مع الضرورة التي فيه وكأن ابن الأثير رحمه الله، لمح معنى الأبيات التي وردت لبعض شعراء الذخيرة لابن بسام وهي:

أصبحت رمةً تزايل عنـهـا  فصلها الجوهريّ والعرضيّ

وتلاشى كيانها الـحـيوانـي  وأودى بيانها المنـطـقـيّ

وقوى عقله الثلاث تلاشـت  إن ذا كلـه لأمـرٌ خـفـيّ

والحواس الخمس التي كنّ فيه  ولإدراكهنّ فـعـلٌ وحـيّ

ذهبت تلكم الصفات جمـيعـاً  ومحالٌ أن يذهـب الأزلـي

فأراد أن يأتي بهذا المعنى فأفسده، وهدم ما جاء به هذا الشاعر وشيده. وبعض الناس يدعي أن هذه الأبيات للرئيس أبي علي بن سينا، وابن بسام أثبتها في الذخيرة لبعض المغاربة. ولكن قصيدة الرئيس في النفس التي أولها:

هبطت إليك من المحل الأرفع  ورقاء ذات تّعزّزٍ وتمـنـع

في غاية الحسن، وما لأحد مثلها في بابها، وشهرتها تمنع من سردها. وقد اعتنى بها الفضلاء وخمسوها وشرحوها. وما أحسن قوله وقد ذكرها عند الموت:

وكأنها برقٌ تألّق بالحمى  ثم انطوى فكأنه لم يلمع

 

نماذج من إنشاء ابن الأثير والنقاش حولها

قال: ومن ذلك ما ذكرته في وصف كلام بالفصاحة، وهو فصل من كتاب فقلت: وله البيان الذي يفض من نسق الفريد ولا تخلق نضرة لباسه الجديد، وهو فوق الكلام المجيد، ودون القرآن المجيد.

أقول: ما رأينا من مدح كلاما ولا قرظه بمثل هذا. وفي أفانين المديح وضروب الثناء عن ذلك مندوحة، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم. ومع هذا فما سمعت أحدا مدح آخر فقال له: أنت دون النبي عليه السلام. لأن لفظة دون وأقل وتحت ما تستعمل في جانب الممدوح. وكلام الله تعالى قد تقرر وثبت أنه ليس في قدرة البشر أن يأتوا بسورة منه، فكل كلام دونه.

فقوله: كلام دون القرآن المجيد لا معنى تحته لأنه من باب تحصيل الحاصل. ومثل هذا عند الشيخ جمال الدين بن مالك ومن تابعه، لا يطلق عليه كلاما لأنه ما أفاد فائدة تامة لم تكن عند المخاطب كقولك: السماء فوق الأرض لأنه معلوم عند كل أحد. فإن قلت: أراد بذلك الأدب. قلت ما ضاق المجال عليه، ولا حصره ضيق المقام إلى هذا حتى يحتاج أن يأتي بما يحترز فيه. وما أوقعه في ذلك إلا لفظة المجيد والمجيد وطلب الجناس.

قال: وإذا اختصروا صفة قال: إنه يستميل سمع الطروب، ويستخف وقار القلوب ويتمثل آيات بيضا من غير ضم إلى الجيوب، ويرى في الأرض غير لاغب إذا مس غيره فتنة اللغوب.

أقول: إذا كان يستميل سمع الطروب، فما في هذا كبير مدح، وذلك أن صيغة فعول مبالغة فيمن يطرب. ولا يقال طروب إلا لمن يميل لأدنى لذة، ويتحرك لأقل نعمة. مثل: أكول وشروب لكثير الأكل والشرب لما يمر به. وإذا كان الذي يميل إلى الطرب ويتكرر ذلك منه، يطرب لهذا الكلام فما في هذا مزية توجب مدحه، ولهذا قيل: المستعد للشيء يكفيه أدنى سبب، وإنما المدح أن يقال: يستميل من لا يرتاح للطرب. كما قال في الثانية: ويستخف وقار القلوب. فإن هذا هو المعهود في المدح. فإن قلت: هذا يرد على البحتري في قوله:

مستميلٌ سمع الطروب المعنّى  عن أغانيّ معبـدٍ وعـقـيد

قلت: هذا مما يؤيد ما قلته، لأنه قال: يستميل سمع الطروب المعنى عن سماع معبد وعقيد اللذين هما أصل الغناء. وإذا كان يلفت من هو بهذه الصفة عن لذته إلى سماعه، كان ذلك مدحا فهو من باب يستخف الحليم ويصبي الناسك. وما خلص هذا للبحتري إلا بقوله: عن أغاني معبد. ولو قال ابن الأثير: يستميل الطروب عن أغانيه بفصاحته، لما أوردت عليه هذا الإيراد. وهذا الذي قلته هو المعهود في المدح.

ألا ترى قول النابغة الذبياني:

لو أنها عرضت لأشمط راهبٍ  عبد الإله صرورة متعـبـد

لرنا لبهجتها وحسن حديثـهـا  ولخاله رشدا وإن لـم يرشـد

وقول امرىء القيس:

إلى مثلها يرنو الحليم صـبـابةً  إذا ما اسبكرّت بين درع ومجول

وما أحسن قول كشاجم في عوادة، من أبيات:

دارت ملاويه فيه فاختلفت  مثل اختلاف اليدين شبّكتا

لو حرّكته وراء منهـزمٍ  على بريدٍ لعاج والتفتـا

وقلت أنا:

جسّت مثاني عودها بـأنـامـلٍ  عبثت بلبّ الخاشع المـتـورع

وشدت فلو شاءت عذوبة لفظهـا  عطفت عنان البارق المتسـرع

وعجبت من ريح الصّبا إذ لم تقف  طربا ولكن ما لها أذن تـعـي

وأما قوله: ويرى في الأرض غير لاغب، ما سمعت بمن مدح الكلام الفصيح بمثل هذا، والكلام لا يوصف بإعياء ولا لغوب. ولكن هذا من باب إضافة العقل والدين والجوارح للخمر في الفصل الذي تقدم. أتراه ما علم أن اللغوب من صفات الأجسام ولواحقها عند الحركة وإدمانها، فإن الكلام لا يتعب وإنما التعب لجارحة من تكلم به، والكتاب لا يتعب وإنما الكاتب الذي خطه.

وما أحسن قول القائل:

إذا أخذ القرطاس أودع طرسه  خميلة زهر أو قلادة جوهـر

حمى كلّ فكرٍ عن عراك رويّه  وحطّ عن الأقلام ثقل التفكـر

فإن كان ابن الأثير أراد الكاتب الذي صدر عنه هذا الكتاب الذي وصفه، فليس في سياق الكلام ما يدل عليه.

وقد عاب الوحيد على أبي الطيب قوله:

كلّ السيوف إذا طال الضراب بها  يمسّها غير سيف الدولة السـأم

وقال: السأم لا يلحق السيوف إلا أن يكون جاء به استعارة في موضع كلال الحد قال: ولما وقفت عليه قلت: سبحان من أعطى سيدنا فلم يبخل، وخصه بنبوة البيان إلا أنه لم يرسل، ولولا أن الوحي قد سد بابه لقيل هذا كتاب منزل، ولقد خار الله لأولي الفصاحة إذ لم يحيوا إلى عصره، ولم يبلوا بداء الحسد الذي يصليهم بتوقد جمره، ولئن سلموا من ذلك فما سلمت أقوالهم من أقواله التي محتها محو المداد، وقد كانت باقية من بعده فلما أتى صارت كما صاروا إلى الألحاد.

أقول: في هذا من اساءة الأدب ما فيه، وللإنسان عن مثل هذا المدح مندوحة تخرجه من هذه المضائق.

وقوله: وخصه بنبوة البيان إلا أنه لم يرسل مأخوذ من قول أبي العلاء المعري:

لولا انقطاع الوحي بعد محمدٍ  قلنا محمد من أبـيه بـديل

هو مثله في الفضل إلا أنـه  لم يأته برسـالةٍ جـبـريل

وقد كفر قائل مثل هذا.

قال: وإن لكلمه طعما يعرف مذاقه من بين الكلام، وخفة الأرواح معلومة من بين ثقل الأجسام، فلو لم يعرف بطعمه عرف بوسمه، والصبح لا يتمارى في إسفاره، ولا يفتقر إلى دليل على أنواره. وقد علم أن العرق يعرف بغصنه، وأن القول يعرف بلحنه.

أقول: قوله: وإن لكلمه طعما يعرف مذاقه من بين الكلام، ما أحسن ما أجاب به ابن عميرة ابن الأبار عن كتاب بعثه إليه، فجاء من جملة الجواب:  فمهلا أيها الموفي على علمه النافث بسحر قلمه، أتظن منزلتك في البلاغة تخفى ومهيعها لا حب. ومنزعها بالعقول لاعب. أتسفل وقد ترفعت، أو تخفى وقد تلفعت. عرفناك يا سوده، وشهرت حلة عطارد بالملاحة والجوده.

وقوله: والصبح لا يتمارى في إسفاره، السجعتين. مأخوذ من قول أبي الطيب:

وليس يصح في الأفهام شيءٌ  إذا احتاج النهار إلى دلـيل

ومن قول الغزي:

فلا تبغ برهانا على مكرماتـه  طلابك برهانا على الصبح بارد

وقوله: وقد علم أن العرق يعرف بغصنه مأخوذ من قول أبي الطيب:

أفعاله نسب لو لـم يقـل مـعـهـا  جدّي الخصيب عرفنا العرق بالغصن

على أن المتنبي أخذه من البحتري حيث يقول:

لست أعتدّ للفتى نسـبـا  ما لم يكن في فعاله نسبه

ومن قول ابن الرومي:

كدأب عليٍ في المـواطـن جـده  أبي حسنٍ والغصن من حيث يخرج

وقد نقلت أنا هذا المعنى إلى الغزل، فقلت في مليح رأيته في طاقة:

رأيت في طاقةٍ كالبـدر فـتـى  فقلت من تحت هذا البانة النضره

قالوا حكمت وما أبصرت قامتـه  فقلت: إني عرفت الغصن بالثمره

قال: ونفائس هذه العقود لا تبرزها إلا أنفاسه، فدررها لفظه، وسلوكها قرطاسه ثم قال ومن هذا الباب قولي أيضاً وهو ألفاظ كخفق البنود وزأر الأسود، ومعان تدل بإرهافها أنها هي السيوف وأن قلوبا نمتها هي الغمود، فيخالها المتأمل حومة طعان أو حلبة رهان.

أقول: ما طبق في هذا المفصل على المفصل، فإنه شبهها بخفق البنود وزأر الأسود. فأي مدخل في هذين لحلبة الرهان فيما بعد ولم يتقدم للخيل ذكر. والتناسب أن يقول: حومة طعان، وغيل ليوث، وجلاد فرسان. ومثل هذه الأوصاف لا تكون في شيء من الكلام، إلا أن يوصف بذلك كلام فيه تهديد وتقريع أو إرهاب عدو أو ما جرى مجراه.

ألا ترى ما أحسن قول البحتري:

عتابٌ بأطراف القوافي كأنه  عتابٌ بأطراف القنا المتكسر

ولا بأس بإيراد شيء من كلام القاضي الفاضل رحمه الله في وصف المراسلات الواردة، لتعلم أيها الواقف على هذه الأوراق كيف يكون التقريظ.

فمن ذلك قوله: وصلني كتابه فوصلني منه ما وصلني، وعرفت من بلاغته ما جهلني، وشربت من بحر كلامه ما شربني وأكلني، وعلوت به قدرا على أنه عن صهوة الكلام استنزلني. فإنها بدائع، ما سر البلاغة قبلها بذائع، ووقائع خاطر صفت صفاتها فهي التي رقته وروقته الوقائع، وغرائب سهلت وجزلت فتارة أقول جرأة نبع وتارة أقول جرية نابع. قد ضمن الدر إلا أنه كما قال أبو الطيب كلم، وأحيى حي الشوق إلا أنه كما قال أبو تمام لو مات من شغله بالبين ما علم. ففديت يدها وقد مدت ظلا من الخط كاد يقصر ظلا من الحظ، ولله قلمها الذي طال وأناف فما كأنه تحيفه القط قط.

وقوله: وما أحسب الأقلام جعلت ساجدة إلا لأن طرسه محراب، ولا أنها سميت خرسا إلا قبل أن ينفث سيدنا في روعها رائع هذا الصواب، ولا أنها اضطجعت في دويها إلا ليبعثها ما ينفخ فيها من روحه في مرقدها، ولاسودت رؤوسها إلا لأنها أعلام عباسية تناولتها الحضرة بيدها، لا جرم أنها تحمي الحمى، وتسفك دما وتحقن دما وتتشح بهايده عنانا، ويرسلها فيعلم الفرسان أن في الكتاب فرسانا، ويقوم الخطباء بما كتبت فتعلم الألسنة أن في الأيدي كما في الأفواه لسانا، ولقد عجبت من هذه الأقلام تحز ألسنتها قطعا فتنطق فصيحه، وتجدع أنوفها بريا فتخرج صحيحة، وتجلى مليحه، وما هي إلا آية في يد سيدنا البيضاء موسويه، وما مادتها في الفصاحة إلا علوية ولولا الغلو لقال علويه.

وقوله: ولو ادعى سحر البيان أنه يقضي أيسر حقوقه، ويثمر ما يجب من شكر فروعه وعروقه، لكنت أفضح باطل سحره، وأذيقه وبال أمره، وأصلب الخواطر السحارة على جذوع الأقلام، وأعقد ألسنتها كما تعقد السحرة الألسن عن الكلام.

وقوله: كتاب كريمي من حيث نسبته إليه، كليمي من حيث نسبته إلى اليد لبيضاء من يديه، مسيحي من حيث أن أحيى موات الأنس، محمدي من حيث كاد يكون بما نفثه في روعي روح القدس، فلا عدمت مخاطبته التي تخلع على الأيام يوم العيد، وعلى الليالي ليلة العرس. فأبقاه الله للسان العربي فلولاه كان مزويا لا مرويا ، مدحورا لا مدخورا ، ولولاه لحالت أحرفه عن حالاتها، وأبت الفصاحة أن تكون قوائم الأحرف من آلاتها. فكانت تقعد ألفه القائمة، وتموت باؤه النائمة، ويزيد حني ظهر داله حتى يلحق بالرغام خدها ويغض، وحتى تدرد أسنان سنه فلا يبقى لها ناجذ عليه تعض.

وقوله: وقف عليه والشكر عن المنعم به غير واقف بل وقف، واستمطر منه صوب الغمام فما انقطع له ولا كف وكف، ورأى بنيان تبيان لو رأته المجارون لأتي بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف، فلله هو من بليغ إن قال فالقول عنده أكثر يوم البين من ماء الطرف، وإن رام القول غيره فهو أقل عنده يوم الحسين من ماء الطف.

وقوله في جواب كتاب للشيخ تاج الدين الكندي: وظننته وحقق الله فيه الظن وقد ارتقى الأسباب وأخذ اللفظ من القطر والقرطاس من السحاب، وآمنت بصحة رقيه، وتبينت التقاطه للنجوم حين أوردها في بارع اللفظ ونقيه، وقلت للجماعة: كلام التاج تاج الكلام، والملك في كندة وكانت أقلامها سيوفا وسيوفها الآن أقلام.

وقوله: فوقفت منه على ظرف الظرف، وتحفة الطرف، وكدت أعبده منه على حرف، وكل حرف ذلك الحرف. ولولا إشفاقي أن يفطن الدهر لمكانه من قلبي، وخوفي أن أعرفه بحسنته منه فأغريه منها برفع أوزار حربي، لقلت قولا يغض الأولين والآخرين من هذه الصناعة، وأنفذت فيهم سهاما لا تحمي شاعرا منها صخرة وجه ولا كاتبا درع دراعة. وما هي إلا آيات كل واحدة أكبر من أختها، وفكر مرزوقة في أيام الجمعة كلها إذا أتت الفكر أرزاقها يوم سبتها.

وقوله: كتب كريمة كادت ألفاظها تتبسم، ومعانيها تتكلم، وكادت حروفها تكون أناسي لعين المسار، وكادت سطورها تجلي عرائس وعليها من الشكل حلي ومن النقط نثار.

وقوله: كتاب سني المعاني سيني القوافي، وحق سينه أن يخلص لها الإقبال، والسين تصحب الفعل فتخلصه للاستقبال، وهذا أفق لامطار فيه إلا للعقاب وابنه، وبحر لا سبح فيه إلا لمن يخرج الدر من فيه ويدخل البحر في ردنه، وما عنيت ها هنا بالبحر إلا يده الكريمة فأما البحر فلم أعنه.

وقوله: كتب المجلس روح الله قلبه، وأتاح قربه، ولا برحت أقلامه سلاح أوليائه على الزمن إذا خافوا حربه، تؤنس راجيها، وتؤيس مجاريها، ويخصب بها السمع، ويتظاهر بها النفع، لولا أنها تغير علينا شيمنا فتخلق فيها الحسد، وتشد أيدينا إذا تعاطينا المجاراة بحبل من مسد.

وقوله: وسيدنا ما بعد بيانه بيان، وبين فكيه سيف وبين فكي كل إنسان لسان، فقولي يا أقلامه فقد خرست في الغمود المناصل، وتبختري يا تغلب ابنة وائل فقد أعطي من البلغاء التقدمة وهم صارغون، وأفلح المعترف بفضله وقد علم أنه لا يفلح الكافرون.

وقوله: ووقف على الميمية فأطاف به منها الطوفان، وحياة منها الروح والريحان، وهي مما أملاه ملك إن كان يملي الأشعار شيطان، وعجبت لاطراد تلك القوافي، ورأيت الشعراء أتت بما ألفت في ضيق الأودية وخاطره وقلمه أتيا بما ألقيا في الفيافي، وكل بيت منها بديوان، كما أن قائلها إنسان يفدى بألف إنسان، كما أن قلمه قصير فما جدع أنفه إلا ليأخذ ثأر القلم من السنان.

قلت: وعلى ذكر الفيافي في قول القاضي الفاضل، وما ركبه في هذه السجعة من الجناس المليح، فكنت كتبت إلى شيخنا الحافظ فتح الدين محمد بن سيد الناس أبياتا ، وأجابني عنها بنظم ونثر. من جملة النثر: بل ذلك السحر الحلال الشافي، بل تلك القوى في القوافي، بل تلك المقاصد التي أقصدت المنى في المنافي.

فكتبت الجواب إليه ومنه: وعكف منه على كعبة البلاغة، فيا حسن ما نشر في استلامي وطوى في طوافي، وأراد طائر القلب أن ينهض بالجواب فذهبت القوى من القوادم، وظهر الخوى في الخوافي. رجع إلى كلام الفاضل.

وقوله: ولكن اعتزل الناس السسماك الأعزل، وارتفع أهل الدرج العليا وانخفض أهل الدرك الأسفل، وضيع الناس السهام وأصبت أنت بواحدها المقتل، فأنت الرامي وغيرك الرائم، وأنت الحامي وغيرك الحائم، وحروفك الأزهار وكتبك الكمائم، وقلمك الساقي وخواطرك الغمائم، وبقولك يضن ويغالى، وإذا قلت يا خيل الأقلام اركبي ملأت الأرض تصهالا وصيالا، ونفرت إليك المعاني خفافاً وثقالاً، وأذنت فيها بالحج ضمائر على كل ضامر ورجالاً، وأنت الحاضر والغيب الحضور، وأنت الحاضر والغيب الحضور، وأنت السيد وغيرك الحصور، والأسماع إلى ما تقول في دمشق صور، ولو قدحت الماء لاستطار شراراً، ولو أجرت ورد الخد لكنت له من بنفسج العذار جاراً.

وقوله: فلله هو من كتاب كأنه سورة، وكل آية فيه، سجدة، وقابله بالخشوع كأنما قلم الكتاب القضيب وطرسه البردة.

وقوله: وما هذه الكتب إلا كتائب، وما هذه الأحرف إلا قواضب، ولا الأسطر بها إلا مراكب، ولا النفس منها إلا عجاج يسفر عن الصباح إسفار الغياهب.

وقوله: وكأنما ذخر قلمها للمملكة يحوك وشيها، وصائغا يخلق حليها، وكأنما هو أمير والكلام رعيته فهو يصرف أمرها ونهيها، وكأنما أودع الله سبحانه خاطرها سحابا وكتابها روضا جعل القلم دولابها والدواة نهيها.

وقوله: وارتحت لما امتحت على بعد أرضي من غمامه، واويت القب الدوي من آلامه بلمامه، وأعاد علي زمن رامة كما هو بآرامه، وطلع علي مطالع الأهلة ? هل هي إلا قلامة أقلامه.

وليكن هنا آخر ما أورده للقاضي الفاضل من هذا النوع، وإن كان ذلك قطرة من حوض، وزهرة من روض.

 

مناسبة اللفظ للمعنى

قال في فصل بعدما تقدم: وقد نيط بسيدنا قلما الخط اللذان ينسب أحدهما إلى المداد، وينسب الآخر إلى الصعاد.

أقول: أما نسبة القلم إلى المداد فجائز، وأما نسبة الآخر إلى الصعاد فما أدري ما هو. فإن الصعاد هي الرماح التي تنبت مستقيمة فلا تحتاج إلى تثقيف.

فنسبة الرماح إلى الصعاد، أو الصعاد إلى الرماح من باب نسبة الشيء إلى نفسه، وهو غير جائز. وما تنسب الرماح إلا إلى الأعلام أو الأسنة أو الطعن، كما تنسب الأقلام إلى المداد والكتابة.

قال: ومن ذلك ما ذكرته في وصف القلم فقلت: وقد أوحى الله إلى قلمه ما أوحى إلى النحل، غير أنها تأوي إلى المكان الوعر وهو يأوي إلى المكان السهل، ومن شأنه أن يجتني من ثمرات ذات أرواح لا ذات أكمام، ويخرج من نفثاته شراب مختلف طعمه فيه شفاء للأفهام.

أقول: قوله ثمرات ذات أرواح لا ذات أكمام غير مناسب، إذ المناسبة تقتضي أن يقول: ذات أرواح لا ذات أجسام، أو ذات طيالس لا ذات أكمام، ليناسب بين الروح والجسم والطيلسان والكم. ثم نسبة الروح إلى الثمرة أمر خارج عن العادة، ولم يسمع بثمر له روح وثمر ما له روح. وإذا قصدت المبالغة في وصف الثمرة قيل إنها ماء تجمد أو هواء تجسد.

وما أحسن قول أبي الطيب.

لها ثمرٌ يشير إليك منه  بأشربةٍ وقفن بلا أواني

 

اللفظ والتركيب

قال في القسم الأول من المقالة الأولى: وكذلك ورد قوله تعالى: "إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة، ولي نعجة واحدة". فلفظة لي مثل لفظة تؤذي وقد جاءت في الآية مندرجة متعلقة بما بعدها، وإذا جاءت منقطعة لا تجيء لائقة، كقول أبي الطيب: تمسي الأمانيّ صرعى دون مطلبه  فما يقول لشيءٍ ليت ذلـك لـي

أقول: أي شيء أنكره من هذه اللفظة: وليس الذي ذكره غير دعوى مجردة، وهذه لفظة لي قد وقعت متمكنة، والقافية إذا جاءت متمكنة فإنها من حسن التركيب وعذوبة الانسجام. وأما لفظة تؤذي في قوله:

تلذ له المرؤة وهي تؤذي

فإنها جاءت ركيكة بخلاف لي في البيت المذكور. ولا تعاب هذه في هذا البيت، إلا أن تعاب لفظة بي في قوله:

أزورهم وسواد الليل يشفع لـي  وأنثني وبياض الصبح يغري بي

وما رأيت من عاب هذا البيت ولا هذه القافية، وإنما هو معدود في المحاسن التي انفرد بها أبو الطيب، لما فيه من مقابلة خمسة بخمسة. ولم يتفق هذا العدد لغيره. وكذا لفظة تؤذي التي عابها، لو وقعت قافية متمكنة لم تعب.

وما أحسن قول الشيخ مجد الدين بن الظهير الإربلي:

قلبي وطرفي ذا يسيل دما وذا  دون الورى أنت العليم بقرحه

وهما بحبك شاهدان وإنمـا  تعديل كلٍ منهما في جرحه

والقلب منزلك القديم فإن تجد  فيه سواك من الأنام فنحّـه

انظر إلى هذه القافية الثالثة ما أحلاها وأمكنها لا يقوم غيرها مقامها، ولو وقعت في غير القافية لما كان لها هذه الحلاوة والتمكن. وكذا لفظة لي في قول أبي الطيب.

ومن هذا التمكن في القافية، قول ابن أبي هلال القيرواني من أبيات:

يهدي إلى العليا فما من سـالـكٍ  طرق العلا إلا وكـان دلـيلـه

فضل الورى في الفضل حتى إنّه  لو قيل من فذّ الأنام ? لقيل: هو

وما أحسن ما استعمل القاضي الفاضل رحمه الله تعالى لفظة لي في القافية حيث قال:

ومدحت أهل البيت منكم بالذي  شهد الرجال بأن ذاك البيت لي

 

هل سورة النجم مسجوعة على حرف الياء؟

قال في هذا القسم وقد استطرد الكلام إلى قوله تعالى: "تلك إِذن قِسمةٌ ضِيزي" إن سورة النجم مسجوعة على حرف الياء.

أقول: ليس الاعتبار في رؤوس القرائن والقوافي بصورة الخط، إنما العبرة باللفظ. والسورة مسجوعة على حرف الألف المقصورة. ولكنه غره رسم رؤوس الآي بالياء نظرا إلى أصل الكلمة. ولا قائل بأن صغرى وكبرى وضيزى ومأوى ومنتهى، وما أشبه ذلك، إذا وقع في رؤوس الآي، أو في قافية البيت على حرف الياء، بل كل ذلك من باب الألف المقصورة في مثل حبلى ودنيا، وإنما كتب ذلك بالياء نظرا إلى أصل الكلمة لكونها من ذوات الياء. فإنك تقول: المأوى من أويت، والمنتهى من انتهيت، وهوى من هويت، وغوى من غويت.

وإذا كان الأصل في الكلمة الواو كتب ذلك بالألف. مثل دنيا لأنه من دنوت، ورجا من رجوت في أحد القولين. وزعم بعضهم أن ذلك لكراهية الجمع بين المثلين. وما أظن بابن الأثير رحمه الله أنه جهل هذا، ولكنها غفلة ليس إلا

 

مناسبة اللفظ للمعنى ونماذج من خطب ابن نباته

قال أيضاً في هذا القسم وقد أورد قول الفرزدق:

ولولا حياءٌ زدت راسك شـجةً  إذا سبرت ظلت جوانبها تغلي

شرنبثةٌ شمطاء من ير ما بهـا  تشبه ولو بين الخماسي والطفل

إن شرنبثة من الألفاظ التي يسوغ استعمالها في الشعر، وهي ها هنا غير مستكرهة، إلا أنها لو وردت في كلام منثور من كتاب أو خطبة، لعيب ذلك على مستعمله.

أقول: قبل هذا بأسطر قليلة أورد قول تأبط شرا :

يظلّ بموماةٍ ويمسي بـغـيرهـا  جحيشا ويعروري ظهور المسالك

وقال: لفظة جحيش من الألفاظ المنكرة القبيحة.

فيقال له: سبحان الله ما بالعهد من قدم، تناقض قولك في صفحة واحدة، وأنا أرى أن جحيشا أخف على السمع من شرنبثة ولو وردت هذه شرنبثة في النيل كدرته، وأحالت فراته العذب إلى الملح الأجاج وغيرته، ولو كانت خالا في وجنة الشمس هجنتها، وألغت محاسنها التي أنارت الأيام وزينتها.

قال: وقد ورد في خطب الشيخ الخطيب ابن نباتة، كقوله في خطبة يذكر فيها أهوال القيامة فقال: اقمطر وبالها واشمخر نكالها، فما طابت ولا ساغت.

أقول: إن الخطيب رحمه الله من البلغاء الفصحاء الذين يوردون الكلام موارده، ويعطون كل مقام ما يستحقه، لأن ذكر النار والقيامة أمر مهول ويحتاج إلى ألفاظ مفخمة تهول السمع وتسيل الدمع وتقشعر لها الجلود وتنفطر لها الكبود. ولا يليق بأوصاف النار غير هذه الألفاظ مثل: اقمطر واشمخر واسبطر وازبأر واكفهر واقشعر وابذعر واطلخم وادلهم، واقتحم واحتدم.

 

الموضوعات والألفاظ

كما أن أوصاف الجنة لها ألفاظ تخصها عذبة سهلة لذيذة إلى السمع. مثل: لان نسيمها، ودام نعميها، ورف ظرها، وراق زلالها، وعذب تسنيمها.

ألا ترى أن المديح له ألفاظ تخصه، والهجاء له ألفاظ تخصه. فيذكر الرأس والفرق في المديح، والدماغ والقذال في الهجاء.

ووصف أبو زبيد الطائي للأسد بحضرة الصحابة بمجلس عثمان رضي الله عنه مما يؤيد هذا الكلام. من جملة ذلك أنه قال:

لبلاغمه غطيط، ولصدره نحيط، ولطرفه وميض، ولأرساغه نقيض، كأنما يخبط هشيما أو يطا صريما، وإذا هامة كالمجن وخد كالمسن، وعينان سجراوان كأنهما سراجان يقدان، وقصرة ربله ولزمة رهلة، وكتد مغبط وزور مرط، وعضد مفتول وساعد مجدول وكف شثنه البراثن إلى مخالب كالمحاجن. فضرب بيده فأرهج وكشر فأفرج عن أنياب كالمعاول مصقولة غير مفلولة، وفم أشدق كالغار الأخرق، ثم تمطى فأشرع بيديه، ثم حفز وركيه برجليه، حتى صار طوله مثليه ثم أقعى فاقشعر، ثم مثل فاكفهر، ثم تجهم فازبأر. فلا وذو بيته في السماء ما اتقيناه إلا بأول أخ لنا من فزارة، ضخم الجزارة، فوقصه ثم أقعصه، ثم نفضه نفضة فقضقض متنه وبقر بطنه وجعل يلغ في دمه. فذمرت أصحابي فبعد لأي ما استقدموا فهجهجنا به فكر مقشعرا بزبرة كأنها شيهم حولي، فاختلج من دوننا رجلا أعجر ذا حوايا، فنفضه نفضة تزايلت لها مفاصله، ثم نهم فقرقر، ثم زفر فبربر، ثم زأر فجرجر، ثم لحظ. فوالله لخلت البرق يتطاير من تحت جفونه عن شماله ويمينه. فأرعشت الأيدي، واصطكت الأرجل، وأطت الأضلاع، وارتجت الأسماع، ولحقت المتون، وشخصت العيون وساءت الظنون، واخزألت المتون. ثم تبهنس وحلق، ثم حدق وحملق، فإذا له عينان سجراوان مثل وهج الشرر، كأنما نقرا بالمناقير عن عرض حجر. لونه ورد، وزئيره رعد، وجبهته عظيمة، وهامته شتيمة. إن استقبلته قلت أدرع، وإن استدبرته قلت أقدع. وإذا الليل اعرنكس تبغى وتحسس. هوله شديد وشره عنيد وخيره بعيد، متى قاسم ظلم، ومتى بارز حطم، ومتى نال غشم. ثم أنشد:

عبوسٌ شموسٌ مطرخمٌ مكـابـرٌ  جريءٌ على الأعداء للقرن قاهر

براثنه شثنٌ وعيناه فـي الـدّجـى  كجمر غضا في وجهه الشر طائر

يدلّ بـأنـيابٍ حـدادٍ كـأنـهــا  إذا قلّص الأشداق عنها خنـاجـر

قال الراوي: فحبق أحد الحاضرين، فقال له عثمان رضي الله عنه: مه رض الله فاك فلقد رعبت المسلمين.

فانظر إلى هذه الألفاظ ومواقعها في النفس، كأنها أسود تلتهم أو أساود تلتقم، هل يحسن شيء منها أن يكون في وصف ظبي أو طاووس ? كلا. وقد عجبت منه كونه خفي مثل هذا عليه.

 

مناسبة اللفظ للسجع

قال في النوع الأول في السجع: ومن ذلك ما كتبته في جواب كتاب يتضمن إباق غلام. فقلت: وأما الإشارة الكريمة في أمر الغلام الآبق عن الخدمة، فقد يفر المهر من عليقه، ويطير الفراش إلى حريقه.

أقول: أما الفراش فما يحسن أن يقال فيه: قد يطير إلى حريقه. فإن قد هنا للتقليل. مثل قد يكبو الجواد. وكما قال: وقد يفر المهر من عليقه. أما الفراش فما رأى النار إلا وألقى نفسه فيها. هذا هو الغالب، ولا كذلك المهر، فإن الغالب في أمره أنه إذا رأى العليق أقبل إليه، وفي النادر يفر منه. وقال أبو العلاء المعري في وصف أسد:

بدا فدعا الفراش بناظريه  كما تدعوه موقدتا ظلام

 

مناقشة حول معنى أخطا فيه ابن الأثير

في إنشائه

وأما عطف الإثبات على النفي فلا يجوز في مثل هذا. والأحسن أن يقول: قد يفر المهر من عليقه، وينأى المرء عن شقيقه.

قال عند ذكر التقليد الذي أورده في معارضة الصابي في نقابة الأشراف: أما بعد، فإن كل كلام لا يبدا فيه بحمد الله فهو أجذم، وكل كتاب لا يرقم باسمه فليس بمعلم، وعلى هذا فإن حمده ينزل من الكلام منزلة الأعضاء من الجسم واسمه يتنزل من الكتاب منزلة الرقوم من الثياب. وقد جمعنا في كتابنا هذا بين التسمية والتحميد، وجعلنا أحدهما مفتاحا للتيمن والآخر سببا للمزيد، ثم ردفناهما بالصلاة على سيدنا محمد الذي أيده الله بالقرآن المجيد، وجعل شهادته قبل كل شهيد وعلى آله وصحبه الذين هدوا إلى الطيب من القول، وهدوا إلى صراط حميد.

 

عودة إلى الإبتداء بالحمد

أقول: ادعى أنه حمد الله تعالى وذكر اسمه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وصلى على آله، ولم يصدر منه تحميد ولا ذكر اسم الله تعالى، إلا إن كان في أول التقليد بسم الله الرحمن الرحيم، ولا صلاة، لأنك إذا قلت حمد الله واجب، وذكر اسمه مستحب، والصلاة على رسوله وعلى آله وصحبه متعين، لم تكن أتيت بحمد ولا بذكر اسم ولا بصلاة. وإنما أخبرت عن الحمد بالوجوب، وعن الذكر بالاستحباب، وعن الصلاة بالتعيين. ومثل هذا إذا قلت: سبحان الله عدد ريش الأطيار، والحمد لله عدد موج البحار، لم تكن أتيت بتسبيح وتحميد يوازي ذينك العددين ويساويهما. وكان معنى هذا من قولك: إن الله يستحق من المحامد والتسبيح عدد ذلك.

ومثل هذه الأشياء يتعين أن يتحفظ منها، وإلا كان للطعن فيه مجال.

 

أقسام التصريع

قال وقد ذكر التصريع وقسمه إلى سبعة أقسام: جعل الأول ما كان كل مصراع مستقلا بنفسه، ومثله بقول امرىء القيس: أفاطم مهلا بعض هذا التدلل البيت. 

وجعل المرتبة الثانية أن يكون المصراع الأول مستقلا بنفسه غير محتاج إلى الذي يليه. فإذا جاء الذي يليه كان مرتبطا به، ومثله بقول امرىء القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل البيت. 

وجعل المرتبة الثالثة أن يكون الشاعر مخيرا في وضع كل مصراع موضع أخيه. ومثله بقول ابن حجاج البغدادي:

من شروط الصّبوح في المهرجان  خفة الشّرب مع خلو المـكـان

فإن هذا البيت يجعل مصراعه الأول ثانيا، ومصراعه الثاني أولا . وهذه كالمرتبة الثانية في الجودة.

أقول: هذه المرتبة الثالثة أحق بأن تكون أولى من الأولى التي ذكرها هو، لأن مثل هذا النوع أعز من الأول، وفيه دلالة على تمكن الناظم وجودة طبعه.

وقد جاء منه للغزي:

لولا تذكر ما تقادم عـهـده  ما راجع القلب المدلّه وجده

وكذا قوله أيضاً :

ذهب الصبا فتنقبي أو فاسفري  لا حظّ فيك لذي قذالٍ مسفر

ولابن قلاقس الاسكندري:

الحيا من غيوثك البارقـات  والجنا من أصولك الباسقات

وكذا قوله أيضاً :

عدد ودع ذكر التصابي عدّد  يا غافلا عمّا يراه في الغد

ولابن الساعاتي:

ما كنت بالباكي ولا المتباكي  لولا وقائع طرفك الفتـاك

وكذا قوله أيضاً :

بالله يا رسـل الـرياح  كيف السبيل إلى جناح

ألا ترى أن كل بيت من هذه الأبيات فيه ما في الذي جعله أولا وزيادة، فهو أولى بالتقديم، ويشترط فيه أن يكون كل مصراع منه مستقلا بنفسه، غير محتاج إلى غيره مع إمكان جعل الصدر عجزا والعجز صدرا.

وقد واخذه ابن أبي الحديد في تقسيم التصريع في كتابه ولم يتنبه لهذا.

 

كلامه على التجنيس

قال في التجنيس: القسم الثاني من المشبه بالتجنيس أن تكون الألفاظ متساوية في الوزن، مختلفة في التركيب بحرف واحد لا غير.

ثم مثله بقوله تعالى: "وجوهٌ يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة". ومثل بقوله تعالى "وهم ينهَوْن عنْهُ وينأوْن عنه" ثم قال: وعلى نحو من هذا ورد قوله صلى الله عليه وسلم: الخيل معقود بنواصيها الخير وقول أبي تمام:

يمدون من أيدٍ عواصٍ عواصـم  تصول بأسيافٍ قواضٍ قواضب

وقول البحتري:

من كل ساجي الطّرف أغيد أجيدٍ  ومهفهف الكشحين أحوى أحور

ثم قال: وكذلك قوله:

شواجر أرماحٍ تقطع بينهـا  شواجر أرحامٍ ملومٍ قطوعها

أقول: قد صدر التقسيم بأن تكون الألفاظ متساوية الوزن مختلفة التركيب بحرف واحد، وما صدق معه من الأمثلة التي ذكرها إلا قوله تعالى: "وهم ينهَوْن عنْهُ" الآية وقوله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة" الآية والحديث الذي ذكره. وأما عواص وعواصم، وقواض وقواضب، فإن إحدى اللفظتين زادت على الأخرى بحرف ولم تخالف، وكذا أرحام وأرماح، إحدى اللفظتين خالفت الأخرى بحرفين في الترتيب. ففات ما شرطه، ولا دخول لهذا فيما ذكره.

وقد أورد عليه ابن أبي الحديد في التجنيس أشياء وما تنبه لهذا. وقد خبط ابن الأثير في التجنيس تخبيطا كثيراً وما أحسن في ترتيبه.

وقد وضعت أنا في لك كتابا وسميته جنان الجناس قسمت فيه الجناس إلى ما أمكن تقسيمه، فجاء ما يقارب الستين قسما . فمن أراد تحرير التجنيس في أقسامه فليقف عليه هناك.

 

التجنيس المعكوس

قال: القسم الرابع من المشبه بالتجنيس ويسمى المعكوس ثم أورد عادات السادات سادات العادات، وشيم الأحرار أحرار الشيم وما شابه ذلك وساق أشياء كثيرة له ولغيره.

أقول: ما لهذا النوع دخول في باب التجنيس، وإنما هو من باب رد الأعجاز على الصدور، وهو باب مستقل بذاته. ومن أحسن ما جاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم جار الدار أحق بدار الجار.

وقول الأرجاني:

شبت أنا والتحى حبيبـي  حتى برغمي سلوت عنه

ابيضّ ذاك السواد منـي  واسودّ ذاك البياض منه

وقول عفيف الدين التلمساني وفيه زيادة صنعة:

يا بأبي معاطف وأعـين  يصول منها رامح ونابل

فهذه ذوابـل نـواضـر  وهذه نواظـر ذوابـل

ألا ترى أن الذوابل والنواضر في الأول، غير الذوابل والنواظر في الثاني. ولو عد ابن الأثير مثل هذا في باب التجنيس لكان ذلك قولا صحيحا. فإن الألفاظ اتفقت والمعاني اختلفت.

ومما قلته أنا في ذلك:

أضاع نسكي عذار مسـك  فكيف تركي لحاظ تركي

تنكى سهام الجفون مـنـه  ومقلتي لا تزال تبـكـي

قضى على أدمعي بسفـحٍ  يقضي بها في دمي بسفك

وشكّ قلبي بـرمـح قـدٍّ  قدّ فؤادي بـغـير شـك

فالشك والقد في الأول، غير الشك والقد في الثاني.

ومما نظمته في غير هذا النمط:

قد فاق غصن النقا حبيبي  وأخجل البدر في التمام

ذاك قوامٌ بـلا مـحـيا  وذا محـيّا بـلا قـوام

يقال: إنه رفعت إلى القاضي الفاضل قصة باسم مؤذنين يستخدمان، أحدهما اسمه مرتضى والآخر زيادة، فكتب عليها: أما زيادة فمرتضى، وأما مرتضى فزيادة. فاستخدم زيادة، وصرف مرتضى. وهذا في غاية الحسن.

 

التجنيس المجنب

قال في القسم الخامس المشبه بالتجنيس ويسمى المجنب. ثم إنه أخذ في الاستشهاد على ذلك بقول القائل.

أبا العباس لا تحسب بـأنـي  لشيبي من حلى الأشعار عار

فلي طبعٌ كسلسـالٍ مـعـينٍ  زلالٍ من ذرى الأحجار جار

إذا ما أكبـت الأدوار زنـدا  فلي زندٌ علـى الأدوار وار

ثم قال: وهذا القسم فيه عندي نظر، لأنه بلزوم ما لا يلزم أولى منه بالتجنيس. وأخذ يعلل ذلك بأشياء تعسف فيها.

أقول: الصحيح أن هذا من أقسام التجنيس. وهو النوع الذي يسمونه بالمزدوج. ولزوم ما لا يلزم باب معقود بذاته لا مدخل له في هذا، ولا لهذا فيه مدخل. فإن اللزوم عبارة عن أن يأتي الشاعر أو الكاتب في القافية قبل الروي بحرف أو أكثر، يلتزم بورود ذلك في كل قافية. كما ورد في قول المعري:

لا تطلبـنّ بـآلةٍ لـك رتـبةً  قلم البليغ بغير حظٍ مغـزل

سكن السماكان السماء كلاهما  هذا له رمحٌ وهـذا أعـزل

فإن المعري التزم بالزاي قبل الروي وهو اللام. ولو قال مع ذلك: معول وأول وأفضل لصحت القافية ولكن ورود الزاي لزوم ما لا يلزم، وكما تقول: الحمام والغمام والتمام والكمام. أو: البدور والصدور أو الشذور والنذور.

فإن الميم والدال والذال لزوم ما لا يلزم. ويجوز أن تقول مع الحمام، السلام ومع البدور القبور ومع الشذور، الحرور.

وعلى هذا الشرط بنى المعري لزومياته من أولها إلى آخرها. وأما الذي أورده ابن الأثير، فلم يكن كذلك، لأنه قبل الألف الأولى عين، والثانية جيم، والثالثة واو. ففات اللزوم.

ومما اتفق لي من نمط أبي الفتح البستي:

تذكرت عيشا مرّ حلوا بكم فـهـل  لأيامنا تلـك الـذواهـب واهـب

وما انصرفت آمال نفسي لغيركـم  ولا أنا هذي الـرغـائب غـائب

سأصبر كرها في الهوى غير طائعٍ  لعلّ زمانـي بـالـحـبـائب آيب

وقلت أيضاً :

بنفسي من إذا ادّكر اكتئابـي  وأني لا أرى الأوزار زارا

يبيت وللتّقى حرس عـلـيه  ولي فإذا رأى الأسحار حارا

ولي قلبٌ إذا اذّكر الزمان ال  لذي نلنا به الأوطارا طـارا

وقلت أيضاً :

إن أنت أصبحت ربّ أمرٍ  فلا تعره لبـاس بـاس

وإن تمادت بك الأمانـي  لا تعرها من قياس ياس

 

لزوم ما لا يلزم

قال في النوع الرابع في لزوم ما لا يلزم ومن ذلك ما ذكرته في جملة كتاب يتضمن ذم جبان فقلت: إذا نزل به خطب ملكه الفرق، وإذا ضل في أمر لم يؤمن إلا إذا أدركه الغرق.

أقول: في السجعة الثانية عدم مطابقة، وما يقابل الضلال إلا بالهدى، ولا الإيمان إلا بالكفر. فيقال في ذلك: فإذا كفر نعمة لم يؤمن، وإذا ضل في أمر لم يهتد. وهذا من العيوب المعدودة.

وقد عيب على أبي الطيب قوله:

نظرت إلى الذين أرى ملوكا  كأنك مستقيمٌ في مـحـال

وكان ذلك بحضرة سيف الدولة. فقيل له: إنما يقابل المستقيم بالمعوج، والصناعة تقتضي أن تقول: كأنك مستقيم في اعوجاج. فقال له سيف الدولة: لو أن القافية جيمية كيف كنت تصنع في البيت الثاني ? فقال أبو الطيب من غير روية: كنت أقول:

فإن تفق الأنام وأنت منـهـم  فإنّ البيض بعض دم الدجاج

فاستحسن ذلك من سرعة بديهته.

على أن المتنبي وقع له هذا كثيراً في شعره. من ذلك قوله:

ولكل عين قرةٌ في قربه  حتى كأنّ مغيبه الأقذاء

القرة إنما ضدها الإسخان، والقذى ضده الجلاء. وقوله: ولم يعظم لنقصٍ كان فيه  ولم يزل الأمير ولن يزالا 

العظم ضده الحقارة، والنقص ضده التمام أو الكمال وقوله:

وإنه المشير عليك في بضلّةٍ  فالحرّ ممتحنٌ بأولاد الزنـا

الحر ضده اللئيم.

وإن أمكن التأويل لأبي الطيب في هذه وأمثالها، لكن الأحسن أن تكون كما ذكرته. وهذا النوع كثير في شعره.

 

مناقشة حول معنى أخطأ ابن الأثير فيه في إنشائه

وأما كون ابن الأثير رحمه الله تعالى يأتي بسجعتين لزومهما من أخف ما يكون ويعدهما من اللزوم ويستشهد بهما في كتابه من كلامه فإن هذا من العجيب. ولو كان الكاتب كله من أوله إلى آخره بلزوم الراء قبل القاف، لما كان كبير أمر.

ألم ير كتاب اللزوميات لأبي العلاء، وهو مجلد كبير نظم على حروف المعجم. ألم ير المقامات التميمية وهي خمسون مقامة أنشأها السرقسطي ملزومة من أولها إلى آخرها وقد جمع الشيخ شرف الدين عبد العزيز شيخ الشيوخ من شعره جزءا جيدا من باب اللزوم، أتى فيه بأبحر العروض وضروبها، والشعر في غاية الحسن ولطف التركيب وجودة المعاني ورقة الألفاظ.

من ذلك قوله:

متيمٌ ودّ في عـينـيه لـو خـبـأك  ماذا يضيرك لو عرّفـتـه نـبـأك

إن أثّرت مقلتي في وجنتـيك فـقـد  نكأت قلبي بها أضعاف ما نـكـأك

أدميت خديك إذ أدميت لي كـبـدي  أنصف وقل لي ترى بالشر من بدأك

منها.

قد قلت للسجف لما أن حجبت بـه  يا سيف ليتك قد أخفيت لي رشأك

ويا منمنم خطي عارضـيه لـقـد  قراك مهجته العاني ومـا قـرأك

وأنت يا من يساميني إلى شـرفـي  لقد وسعت إذا أضعاف ما مـلأك

هذا وسرحك يرعى في حمى كلأي  فلا رعى سرحك الباري ولا كلأك

قل ما بدا لك من لؤمٍ لـذي كـرمٍ  فلو نبحت طوال الدهر ما خسـأك

انظر إلى لطف هذا النظم وانسجامه، وإلى هذه القوافي وتمكنها في أماكنها وما أحلاها في مواطنها، وإذا أفردتها من تركيبها لم يكن لها هذا الحسن. وما أقوى تركيبها في بنائها نفسها، وليست على إفرادها بعذبة في السمع. وهنا يبين قدر الناظم. وما أحلى قوله:

فلا رعى سرحك الباري ولا كلأك.

ثم إن ابن الأثير رحمه الله ساق بعد تينك السجعتين شيئاً آخر من كلامه سجعتين سجعتين أيضاً مثل: بابه واغبابه، وعرضا وأرضا ، وأنزلته وحولته، واطرافها واطرافها، وسكناه ويمناه، وليس ذلك من النادر الحسن. كما جاء في كلام القاضي الفاضل رحمه الله تعالى في قوله: والإنعام الذي هو الحقيقة وما سواه مجاز، والفضل الفصل اللذين وردا بالإسهاب والإيجاز، والجميل المخلد الذكر فإنه تنجيز وعد الخلود وإن جاز فيه إنجاز.

وفي قوله: وعرفت الإنعام بالخلع، ومن تكفل في مواقف المناظرة بطي لسانها تكفلت له المملكة بأن يزهى بطيلسانها، وأحلته من سواد الخلع في خلعة إنسانها.

وفي قوله في وصف ليل: في ليل كموج البحر، له أنجم كحبب النهر، وقد حشر الهموم وحشدها وهدى ضوالها وأنشدها. فأقول لما تمطى بصلبه: قطع الله صلبك، ومتى أرى عمود الصبح وقد عجل الله عليه صلبك.

وفي قوله: واطلعت شرف الأربعين وما تركت شرف العشرين، وقلت للنفس: أنساني نيسان ما تشرين لتشرين.

وفي قوله: وأوحشني قوله: إني بعثت بالكتاب مرتادا ومستأذنا ، وكيف ترى في معشر طلبته بالحقوق لأستاذنا، ووجدت ريح كتبه وروح قربه فرجعنا إلى العادة وعادت أيامنا، وصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا، وعاودنا المنى وما كانت تخطر وإن خطرت فإنها كلا منى.

كذا يكون اللزوم حسنا، وكذا تكون الفصحاء لسنا، لا ما أورده ابن الأثير من الحشف، وساقه من الغث الذي مجه السمع وما ارتشف.

وقد اتفق لي في اللزوم أبيات ثنى، لا بأس بإثبات شيء منها هنا. قلت:

أدعوك يا موجد الأشياء مـن عـدم  وصانع العالم العلـوي والأرضـي

إن كنت تعرض يوم الحشر لي عملا  فلا تقدّر له طولا على عـرضـي

وقلت أيضاً :

يا ساحبا ذي الصبا في الهوى  أبليته في الغي وهو القشيب

فاغسل بدمع العين ثوب التقى  ونقّه من قبل عصر المشيب

وقلت أيضاً :

وجدت في عشرة صحبـي أذى  لما لزمت البيت في الوقت زال

يا عجبا مـن أشـعـريّ غـدا  يحمد رأي الناس في الاعتزال

وقلت أيضاً :

إن اللطـافة لـم تـزل  عند الأكابـر فـاشـيه

أرأيت عمرك في الورى  طرفا رقيق الحـاشـيه

وقلت أيضاً :

لا ترع للمـلاّق عـهـدا ولا  تصغ لما نمّقه واخـتـلـق

فأنت تدري ما جنتـه يد الـر  امي على الطير برعي الملق

وقلت أيضاً :

أتاني وقد أودى السهاد بناظري  يمزق جنح الليل بارق فـيه

فقلت له: يا طيّب الأصل هكذا  أخذت الكرى مني وعيني فيه

وقلت أيضاً :

إن عيني مذ غاب شخصك عنها  يأمر السهد في كراها وينهـى

بدموعٍ كـأنـهـنّ الـغـوادي  لا تسل ما جرى على الخد منها

وقلت أيضاً :

فدّيت حبيبا ضرّج الحسن وجهه  فصبّ على خديه ذوب عقيق

إذا عاين الروض المدبّج خـدّه  يقول لنا هذا أخي وشقـيقـي

وقلت أيضاً :

أنفقت كنز مدائحي في ثغره  وجمعت فيه لكل معنى شارد

وطلبت منه جزاء ذلك قبـلةً  فأبى وراح تغزلي في البارد

وقلت أيضاً :

وقف القضيب لقده لما مـشـى  وجرت دموع العين في تحصيله

رشا كساه الحسن مـنـه حـلةً  جاءت بجملتها على تفصـيلـه

وقـــلـــت أيضـــاً :

قالوا وقد مادت بغصن النّفا  أسرفت في الحب بـلا فـائده

فقلت منهوم الهـوى لـم يكـن  يشبع إن لـذت لـه الـمـائده

وقلت أيضاً :

لما تناءيت عنـكـم  ما زال عنّي عنائي

ولو قفلت إلـيكـم  فتحت باب الهنـاء

وقلت أيضاً :

كن كيف شئت فـإن قـد  رك قد غلا عندي وعـزّا

مات السلـوّ تـعـيش أن  ت أما رأيت الصبر عزّى

وقلت أيضاً :

له في خـده آيات حـسـنٍ  وليس لعقدها في الحب فسخ

وريحان العذار لـه حـواشٍ  على نار لهما بالروح تسخو

وقلت أيضاً :

يا عجبا من معشر سكرهم  أثبتهم في عالم المـحـو

وكل كأس شمسه أشرقت  ويومهم عارٍ من الصحو

وقلت أيضاً :

رشأٌ سار بقلـبـي  وأنا أشكر سـيره

فسبى صبري لمّـا  لم يجد القلب غيره

أقول: إنني ما أثبت هذه الأبيات لما فيها من اللزوم ولا بد فإن ذلك إنما جاء فيها ضمنا وتبعا، وإنما أثبتها لما فيها من التورية. وذلك ظاهر لمن تأمل مواضعها.

وكتبت بقدوم ركاب مولانا السلطان خلد الله ملكه من الحجاز الشريف سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة لمولانا ملك الأمراء بالشام المحروس أعز الله أنصاره: ضاعف الله نعمة الجناب العالي وسره بما عطر الوجود من أنباء سلطانه، وأبهجه بعود مليكه بعد بلوغ أوطاره إلى أوطانه، وملأ سمعه بما ملأ قلب الإسلام فرحا حتى فاض قليبه مسرة بغير أشطانه.

صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تطوى على سلام يتعوذ البدر بكماله من نقصانه، وتنشر عن ثناء رقص الحمام بأسجاعه أعطاف أغصانه، وتوضح لعلمه الكريم أنه سطرناها بعد ورود ركابنا الشريف إلى مستقر ملكه بقلعة الجبل التي حللنا مغناها، وضوأنا بنير وجهنا الشريف أفقها وقد كانت كالألفاظ المبهمة فلما حللناها ظهر معناها، ووردناها وهي أشد شوقا إلينا من الرياض الذاوية إلى الغمام، وأعظم كلفا من المشوق بنسمات الحمى وسجعات الحمام، وأكثر تطلا من الساري في الظلام إلى طلعة البدر التمام، فزينا سماءها، وجلينا ظلماءها وبللنا غلة أشواقها، وفككنا يد الوحشة التي أخذت بأطواقها. هذا والظفر نزيل جناب جنائبنا، والنصر خادم ركاب ركائبنا، والسعود سائرة بين أيدينا، والوجود، بالتأييد من سائر الجهات ينادينا، والبروق قد بعثت في الآفاق ملطفات البشائر مخلقة، والأولياء قد حفت بركابنا فما قصرت عنها سوابق نعمنا لما رأيناها محلفة.

وقد قضينا بحمد الله ومنه مناسك الحج، ورفعنا صوتنا بالنداء وأكفنا بالندى فرأى الناس كيف يكون العج، والغيث كيف يكون الثج، ونفحنا من سرانا بنار البرق وفحمة الدجى في ضرم، وعطفنا من مكة شرفها الله إلى المدينة أعزها الله فما سرنا من حرم إلا إلى حرم. فنلنا بفضل الله تعالى ما أميناه وأملناه، وأدينا الأمانة للشوق في التملي بالحجرة الشريفة كما حملناه، وشافهنا ذلك المقام الشريف بالسلام عند الوصول إلى السول، وخلونا به فما كان بيننا وبين الرسول رسول، فالجناب العالي يأخذ حظه من هذه البشرى التي ابتهج بها الإسلام، وترنحت لها أعطاف المنابر وعددت هباتها أنامل الأعلام، ونطقت بمحامدها حتى أفواه المحابر بألسنه الأقلام. ولا يكلف الرعايا في هذه البشرى شيئاً لتكون القربة بريئة من الشوائب، خلية من المعائب، فإن الصواعق تكدر جود السحائب، والملل ينغص وصل الحبائب.

والله يبقى الجناب لهناء نسمعه نغماته المطربة، وثناء تترنح له أعطاف الطروس وتترنم له ألسنة الأقلام في أيدي الكتبة المعربة بمنه وكرمه.

وغالب ما أنشئه أنا إنما آتي به ملزوما، وخطبة هذا الكتاب ملزومة.

قال في اللزوم أيضاً : وقد ورد للعرب شيء من ذلك، فمما جاء منه قول بعضهم في أبيات الحماسة:

إن التي زعمت فؤادك مـلّـهـا  خلقت هواك كما خلقت هوىً لها

وساق الأبيات المشهورة.

أقول: ليس من اللزوم هذا في شيء، وإنما القافية اللام والهاء صلة. ألا ترى أنه لو قال في بعض قوافيها: أقرها أو أصمها لما جاز ذلك. وهذا النوع كثير في شعر العرب وليس هو من اللزوم كقول كثير عزة: خليليّ هذا ربع عزة فاعقـلا  قلوصيكما ثم انزلا حيث حلّت 

وهي قصيدة طويلة، القافية فيها اللام، وأبيات الحماسة التي لعمرو بن معد يكرب:

ولما رأيت الخيل زورا كأنّهـا  جدال زرعٍ أرسلت فاسبطرّت

الأبيات.

القافية فيها الراء. على أن ابن الأثير جعلها من باب اللزوم، وهذا أقرب إلى اللزوم من الأول. ولو أورد هذه وادعى أنها من اللزوم لكان له بعض شبهة. فإن أبا تمام وغيره يرون أن القافية هنا التاء. ونظم أبو تمام قصيدة تائية على هذا. وهي:

نسائلها أيّ المواطن حلّت  وأيّ ديارٍ أوطنتها وأيّت

وكذلك تائية شرف الدين بن الفارض نظم السلوك، والأخرى القصيرة، والمحققون لا يجيزون ذلك ويعيبونه. وأبيات سلمى بن ربيعة شاعر الحماسة:

حلّت تماضر غربةً فاحتلّت  فلجا وأهلك باللّوى فالحلّت

أبيات طويلة لم يجعل رويها غير اللام.

وكذلك قول سليمان بن قتبة العدوي من شعراء الحماسة:

مررت على أبيات آل محمدٍ  فلم أرها كعهدها يوم حلّت

وفي الحماسة من هذا النوع كثير. أما أبيات الحماسة:

وحربٍ يضجّ القوم من نفيانها  ضجيج الجمال الجلّة الدّبرات

فإنها من باب اللزوم، أما التي أوردها ابن الأثير فلا.

قال: وقد ذكر بعضهم في هذا النوع ما ورد في أبيات الحماسة. وهو:

وفيشةٍ ليست كهذي الفيش.

ثم ساق الأبيات وقال: وليس هذا من باب اللزوم. وأخذ يستدل على صحة دعواه، إما بما مغلط فيه، وإما بما خفي الصواب فيه عليه. وأقول: إن هذه الأبيات من باب اللزوم، بدليل أنه لو قال فيها حوش لجاز. وأما استدلاله بعرش وطيش فلا يسلم له. والواو والياء تقعان ردفا قبل الروي كما تقول: قصور وقصير، وكسور وكسير. وهو أشهر وأظهر من أن يستشهد له بشيء.

قال في اللزوم أيضاً : واعلم أنه إذا صغرت الكلمة الأخيرة من الشعر، أو من فواصل الكلام المنثور، فإن ذلك ملحق باللزوم ثم أورد قول الشاعر:

عزّ على ليلى بذي سدير  سوء مبيتي ليلة الغمير

وساقها إلى آخرها.

أقول: ليس ذلك من اللزوم، فإن طمرا وظهرا وصدرا ، وسحرا ومطرا وقمرا ، إذا كان جميع ألفاظها مبكرا فلا لزوم فيها. نعم لو كانت القوافي التي ذكرها، قميرا وغميرا وعميرا وجميرا وسميرا ونميرا ، لعد ذلك من اللزوم لوجود الميم. فإن الناظم لا يتكلف لمثل ما أورده ولا يلزم نفسه شيئاً ، بل كل قافية رائية أو غير بائية يجوز تصغيرها. ومن عجائب هذا الرجل رحمه الله أنه يعد مثل هذا لزوما ثم إنه يقول بعد سطرين: وربما وقع بعض الجهال في هذا الموضع فأدخل فيه ما ليس منه. كقوله تعالى: "إن المتقين في جنّات ونعيم. فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم". وهذا لا يدخل في باب اللزوم، لأن الأصل فيه، نعم وجحيم. والياء هي من حروف المد واللين.

أقول: من المطبوع قول القائل:

لو أراد الله خيرا  وصلاحا لمحبّه

نقلت رقة خدي  ه إلى قسوة قلبه

وكذا هذا الرجل، لو وفقه الله في هذا المقام، كان كلامه هنا قد نقله إلى ما ذكره من التصغير، وقال: إن الياء هنا للتصغير فلا عبرة بها لأن الأصل: سدر وغمر في سدير وغمير. على أنني أضعت هذين البيتين اللذين أوردتهما هنا متمثلا ، فإنهما أشرف من كذا. وما يقال هنا إلا: فديتك لا تزني ولا تتصدقي.

وأما الآيات الكريمة التي أوردها فإنها من باب اللزوم. فإنه يجوز في السجع أن يقال: سموم وحميم فيجمع بين الواو والياء كما تقدم. وأما جحيم ونعيم وحميم فإنه من باب اللزوم وقد خبط في هذا الباب كما خبط في التجنيس. على أن لزوم ما لا يلزم والتجنيس من واضح البديع ومن اشتغل بذلك تنبه لهما في المبادىء لوضوحهما.

وعجبت لابن أبي الحديد كونه ما تنبه لهذه الأشياء.

 

لفظة خود متى تكون حسنة أو قبيحة

قال في النوع السادس في اختلاف صيغ الألفاظ واتفاقها، بعدما ذكر لفظ خود وأنها: في الاسم الذي هو خود حسنة رائقة، وإذا جاءت على صيغة الفعل لم تكن رائقة.

ثم أورد قول أبي تمام.

وإلى بني عبد الكريم تواهقـت  رتك النعام رأى الطريق فخوّدا

وبيت الحماسة:

أقول لنفسي حين خوّد رألهـا  رويدك لمّا تشفقي حين مشفق

ثم إنه حكم للأولى بالثقل والسماجة، وللثانية بالخفة والحسن. واحتج لهذه بأنها وردت هنا على حكم المجاز، وهناك على حكم الحقيقة.

أقول: ما أكثر تحكم هذا الرجل ودعاويه بلا مستند. وإن كان، فهو أوهن من بيت أسس على شفا جرف هار. وذلك أنه من أول الكتاب إلى آخره، يستدل على أن عذوبة اللفظة وحسنها أمر يرجع إلى تركيب أحرفها ولذة موقعها في السمع، وأن ذلك أمر يشهد له الحس.

فيقال له: إذا كان الأمر كذلك، فلا اعتبار هنا بالمعنى، ولو أن المعنى يؤثر في اللفظ عذوبة لكانت هركولة للمرأة المرتجة الأطراف والأرداف عذبةً، ولو أثر المعنى في اللفظ ركة، لكانت لفظة سعير وحيف ثقيلة في السمع. ولما لم تكن العذوبة والثقالة يتعلقان بالمعنى علمنا أنا لمعنى لا عبرة به في الفصاحة. فحينئذ قوله: إن خود في الأول ثقيل لكون حقيقة وفي الثاني حسن لكونه مجازا، دعوى مجردة، لأن الخاء والواو المشددة والدال لم يتغير لها صيغة ولا بناء في الموضعين. والمجاز والحقيقة أمران معنويان لا علاقة لهما باللفظ.

ويقال له: أنت قلت: إن الذي تكلفه النحاة من التعديلات واه لا يثبت على محك النظر، أفهذا التعليل الذي أوردته قوي ثابت على محك النظر، ليس فيه مغمز ولا قدح.

أهذا طعن من يشفي غـلـيلا  وإقدام امرىءٍ عاب الرجالا !

 

هل كلمة الإمة بالكسر فصيحة

قال أيضاً في هذا الفصل، وقد ذكر الإمة بكسر الهمزة: ورأيت صاحب كتاب الفصيح وقد ذكرها فيما اختاره من الألفاظ الفصيحة. ويا ليت شعري ما الذي رآه من فصاحتها. ثم زاد في الحط عليه وأكثر من ذلك.

أقول: إن أبا العباس ثعلبا رحمه الله ما ذكر ذلك إلا التزاما بورودها لأجل الباب الذي عقده لذلك. فقال: باب المكسور أوله، والمضموم باختلاف المعنى فاضطر لذكرها وذكر أمثالها في هذا الباب: من الخطبة والصفر والرحلة والعشر. التزاما بورود ما جاء في ذلك. وقد يكون المكسور أعذب، وقد يكون المضموم أعذب وأئمة اللغة إذا قالوا فصيح ما يريدون به العذوبة والحسن ولا بد، وإنما يريدون به كثرة الاستعمال، والعذوبة قد تجيء بعد ذلك ضمنا وتبعا .

ولهذا تسمعهم يقولون اللغة الصحى في زئبق، وزئبر الثوب الهمز دون التسهيل، وإن كان التسهيل أخف وأعذب من الهمز فالأفصح الهمز.

وكذا قولهم السمع بتحريك الميم أفصح من السكون، والحس يشهد بأن التسكين أخف وأحسن. فكل عذب فصيح ولا ينعكس.

قال في ذلك أيضاً : وكذلك فعل بفتح الفاء وضم العين فليس له إلا اسم واحد أيضاً وهو فعيل، ولا يقع فيه اختلاف إلا ما شذ. لكن فعل بفتح الفاء وكسر العين يقع في اسم فاعله الاختلاف استحسانا واستقباحا لأن له ثلاثة أوزان نحو فاعل وفعل وفعلان، تقول منه: حمد فهو حامد وحمدان.

أقول: إن فعلا بضم العين، ليس فاعله مقصورا على فعيل بل قد يأتي على فعال. نحو جبن فهو جبان، وحصنت المرأة فهي حصان.

وقد يأتي على فعل بتحريك العين، نحو بطل فهو بطل وحسن فهو حسن. وقد يجيء على فعال بضم الفاء نحو فرت الماء فهو فرات، وضخم الشيء فهو ضخام، وشجع فهو شجاع. وقد يجيء على فعول نحو حصرت الناقة فيه حصور، وعزت فهي عزوز. وقد يجيء على فاعل نحو حمض اللبن فهو حامض. وقد يجيء على فعل نحو غمر الرجل إذا لم يجرب الأمور فهو غمر، وصلب الشيء فهو صلب. وقد يجيء على فعل نحو ندس الرجل فهو ندس ويقظ فهو يقظ. وقد يجىء على فعل بسكون العين كقولك: ضخم فهو ضخم، وسهل فهو سهل، وصعب فهو صعب، وشهم فهو شهم.

أما إذا كان من أفعال السجايا كظرف وشرف وعظم وكبر، فإن اسم فاعله على وزن فعيل تقول في ذلك: ظريف وشريف وعظيم وكبير.

وأما فعل بكسر العين، فإنه أطلق العبارة وادعى أن فاعله يجيء على ثلاثة أوزان فاعل وفعل وفعلان والقاعدة في ذلك أن الفعل لا يخلو من ثلاث صيغ: فعل بفتح العين كضرب وفعل بكسر العين كعلم وفعل بضم العين كظرف. أما الأول، فاسم فاعله مطرد القياس على فاعل كضرب فهو ضارب، وذهب فهو ذاهب، وغلب فهو غالب، ونقص فهو ناقص، وكمل فهو كامل.

وأما الثاني وهو فعل بكسر العين فاسم فاعله على فاعل مسموع، لا يتعدى بذلك النقل، وليس للقياس في ذلك مدخل. كقولك: أمن فهو آمن، وسلم فهو سالم، وسخط فهو ساخط ورضي فهو راض.

فأما اطراد اسم فاعل فعل على فعل، فهو إذا كان لازما غير متعد، وهو فعل العرض الذي هو غير مستقر، كقولك: فرح فهو فرح، وغرث فهو غرث، وبطن فهو بطن، وأشر فهو أشر، فهذا مطرد.

وإذا كان متعديا كما ذكره ابن الأثير في حمد فلا يطرد فاعله على فعل أما حمد فما سمعته قط. وأظن ابن خالويه في كتاب ليس قال: ليس في الأسماء ما بني على ثلاثة أسماء مثل: رحم فهو راحم ورحيم ورحمان، إلا سلم فهو سالم وسليم وسلمان، وندم فهو نادم ونديم وندمان. وقيل: إنه ادعى مثل هذا في مجلس سيف الدولة بن حمدان، وذكرت هذه القاعدة وابن خالويه حاضر. فقال: قد بقيت واحدة من نسب الأمير وهي حمد فهو حامد وحميد وحمدان، وهذه من محاسن ابن خالويه. ولو كان في فاعلها حمد لذكر في ذلك الوقت.

فإن كان فعل من أفعال الألوان والخلق، فاسم فاعله على أفعل نحو عور فهو أعور وحول فهو أحول، وجهر فهو أجهر، وكدر فهو أكدر. وكذا خضر وسود وصفر، كلما كان من الألوان فاسم فاعله أفعل.

وأما إذا كان فعل للامتداء وحرارة البطن فهو فعلان بسكون العين مثل: شبع فهو شبعان، وعطش فهو عطشان، وصدي فهو صديان، وروي فهو ريان وسكر فهو سكران. وأما الثالث فهو فعل بضم العين. فقد تقدم الكلام على اسم فاعله.

فهذه القاعدة في أبنية أسماء الفاعلين من الصيغ الثلاثة، لا ما ادعاه وأطلقه.

 

حول المعاظلة اللفظية

قال في المعاظلة اللفظية: ومن ذلك بعضهم:

وقبر حربٍ في مكانٍ قفر  وليس قرب قبر حربٍ قبر

فهذه القافات والراءات كأنها سلسلة في تتابعها، ولا خفاء بما في ذلك من الثقل.

وهكذا ورد قول الحريري في مقاماته فقال:

وازورّ من كـان لـه زائرا  وعاف عافي العرف عرفانه

أقول: أما البيت الذي ذكره أولا فهو معذور فيه، وكل أرباب المعاني والبيان ذكروه ونصوا عليه ولم يقرنوه بقول الحريري. وهذا من تعسفه وتعنته. فإن البيت الذي للحريري ما فيه غير كثرة الجناس، وهذه صناعة فكيف يعدها عيبا. وإن كان كذلك فكل جناس تردد في بيت أو فقرة يكون معاظلة على رأيه وليس كذلك. ولو لمح السر في ثقل ذلك البيت، لما قرنه بقول الحريري. وسبب الثقل في ذلك البيت، ما هو تكرار الحروف ولا بد فإن ذلك جزء علة، وإنما هو تقديم الحروف بعضا على بعض، مع التكرار في قوله: قرب قبر. حتى إن هذا البيت اشتهر بأن الأذكياء يمتحنون بإنشاده ثلاث مرات متواليات على نفس واحد، فما يكاد يسلم أحد من التخبيط فيه.

والسبب في ذلك تقديم بعض الحروف على بعض وتأخيرها. وليس هذا مخصوصا بهذا البيت، بل بكل ما ترددت حروفه متقدمة ومتأخرة.

وهذا ابن سناء الملك من أرق المتأخرين شعرا وألطفهم قد جاء له مثل هذا في قوله:

وصفتك واللاّحي يعاند بالـعـذل  فكنت أبا ذرٍ وكان أبـا جـهـل

له شاهدا زورٍ من النهي والنّهى  عليك ومن عينيك لي شاهدا عدل

حبيبة هذا القلب من قبل خلـقـه  يحبك قلبي قبل خلقك بل قبلـي

انظر البيتين المتقدمين ما أرفهما وما أثقل هذا الثالث، وما سببه غير تقديم الحروف تارة، وتأخيرها تارة في قبلي وقلبي، وقلب وقبل. وأما بيت الحريري فما فيه غير تردد حروف جناسه، والتقديم والتأخير معدومان فيه. ألا ترى أن العين قبل الفاء في المرتين والعين قبل الراء والراء قبل الفاء في المرتين وهذا ظاهر.

وهذا شرف الدين ابن الفارض رحمه الله في تائيته يأتي بالجناس في البيت كثيراً مرددا كقوله:

أيا زاجرا حمر الأوراك تارك ال  موارك من أكوارها كـالأريكة

وليس فيه من التعاظل والثقل على اللسان ما في قوله:

ولا حلم لي في حمل ما فيك نالني  يؤدي لحمدي أو لمدح مـودّتـي

وعاد دعاوي القيل والقال وانج من  عوادي دعاوي صدقها قصد سمعة

وكلّفتها لا بل كفلـت قـيامـهـا  بتكليفها حتى كفلت بكـلـفـتـي

وما السبب في ذلك غير تقديم الحروف في هذا تارة، وتأخيرها تارة، وسردها على الترتيب في الأول من غير تقديم وتأخير فاعرف ذلك.

وأنا ما أنكر أن كثرة التجنيس المتردد في البيت أو الفقرة لا يخلو من ثقل ما، وإنما شاححته في كونه جعل قول الحريري من باب البيت الذي كأنه رقى العقرب، أو بعض العزائم الروحانية، وقد أكثر الناس من الاستشهاد به وصار في قلق الألفاظ مثلا . وتقعير الألفاظ معلوم وقد ذكره الناس. من ذلك أن عيسى بن عمر النحوي أو أبا علقمة النحوي سقط عن حماره وأغمي عليه، فلما أفاق ورأى اجتماع الناس عليه، قال: ما لكم تكأكأتم عليّ تكأكؤ على ذي جنة، افرنقعوا عني يرحمكم الله فقال بعضهم: دعوه فإن عفريته يتكلم بالهندية.

ومن ذلك خبر أم الهيثم مع المرأة التي شكت إليها ألما في ظهرها، فسألتها عن السبب فقالت: كنت وحمى بدكة، فحضرت مأدبةً، فأكلت حيزبة من فراص هلعة فاعترتني زلخة. فقالت لها أم الهيثم: إنك لذات خزعبلات وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون المتشدقون.

هذه الألفاظ كلها يراد بها المتنطعون في الكلام. فالثرثار من قولهم عين ثرثارة إذا كثر ماؤها، والمتفيهق من تفيهق الغدير إذا امتلأ، والمتشدق الذي يفتح شدقيه.

 

من أنواع المعاظلة

قال في المعاظلة: القسم الخامس من المعاظلة أن ترد صفات متعددة على نحو واحد.

كقول أبي تمام وأنشد له أبياتا منها:

تامكه نهده مداخـلـه  ملمومه محزئلّه أجده

ثم قال: وهذا البيت من المعاظلة التي قلع الأضراس دونها.

أقول: ليس ثقل البيت من تعدد الصفات، وإنما هو من قوله تامكه ومحزئله، وليس في تعدد الصفات نفسها ثقل ولا معاظلة إذا وردت بألفاظ عذبة، كما تقول إذا وصفت قواما : قويمه، أهيفه، ناعمه، لدنه، ريانه. فإن حذفت الهاء زاد حسنا . ومثل ذلك قول القاضي شمس الدين أحمد بن خلكان:

قسما بوجهك وهو بـدرٌ طـالـعٌ  وبليل طرتك التي كالـغـيهـب

وبقامةٍ لك كالقضيب ركبت فـي  أخاطرها في الحب أصعد مركب

ويطيب مبسمك الشهي البـارد ال  عذب النمير اللؤلؤي الأشـنـب

ومما قلته في هذا النوع:

قسما بناضر قدك اللدن القـوي  م الأهيف المتعطـف الـرّيان

وبجفني الدامي القريح الهامع ال  هامي الملث الهاطل الهـتّـان

مالي على ذل الجفا صبـرٌ ولا  جلدٌ يساعدني على الهـجـران

والحس يحكم بيننا وبين من يدعي أن هذا من باب المعاظلة اللفظية. وأما بيت أبي تمام فإنه من قصيدة جاء فيها مثله بيتان وهما:

مارنـه لـدنـه مـثـقّـــفـــه  عرّاصه في الأكفّ مسحسحه مطّرده

ثم قال:

مسفّه ثرّه مسححه  وابله مستهلّه برده

قال وقد أورد قول أبي الطيب:

فلا يبّرم الأمر الذي هو حالل  ولا يحلل الأمر الذي هو يبرم

 

رد التعصب

وبلغني عن أبي العلاء أنه كان يتعصب لأبي الطيب، حتى إنه كان يسميه الشاعر ويسمي غيره من الشعراء باسمه. وزاد ابن الأثير في ذم المعري وقال: إن الله قد جمع له بين العمى في البصر والبصيرة.

أقول: إن المعري معذور في تفضيل المتنبي على غيره، وليس هو ببدع في ترجيحه على غيره من الشعراء فأكثر الناس على هذا المذهب. وما المعري ولا غيره ممن رجحه يعتقد أنه معصوم لا يقع في الخطأ. وإنما الرجل إذا أجاد لم يلحقه أحد، وما له عندي نظير غير القاضي الفاضل رحمه الله تعالى، فإن الفاضل هكذا ينحط في بعض الأوقات إلى الحضيض، ثم يثب وثبة تكون الثريا لها ثرى، ويدع من اتبع أثره وقفا خطاه وقد رجع القهقرى. كقوله: وخواطري كليلة، وتصرفاتي قليلة، وحميتي كما يعرفها، والخلطة تخليط، فإن سمع سيدنا بابن شفة عني فهو لقيط.

وكذلك أبو الطيب، بينا تراه على عادة الشعراء من متوسط وردي، حتى يأتي بجيد ترك الناس ينفضون غبار سبقه من هواديهم، وجلس على أسرة الأفق مطمئنا والشعراء يهيمون في واديهم.

كما قال: فذي الدار أخدع من مومسٍ  وأمكر من كفة الحـابـل

ثم أردفه بقوله:

تفانى الرجال على حبها  وما يحصلون على طائل

وكما قال يرثي والدة سيف الدولة:

أتتهنّ المصـيبة غـافـلات  ودمع الحزن في دمع الدلال

ثم قال:

وما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ  ولا التذكير فخر للـهـلال

وكما قال منها:

رأيتك في الذين أرى مملوكا  كأنك مستقيمٌ في مـحـال

ثم أردفه بقوله:

فإن تفق الأنام وأنت منـهـم  فإن المسك بعض دم الغزال

وكما قال في رثاء ابن سيف الدولة:

بنا منك فوق الرمل ما بك في الرمل  فهذا الذي يضني كذاك الذي يبلـي

ثم أردفه:

كأنك أبصرت الذي بي وخفـتـه  إذا متّ فاخترت الحمام على الثكل

وكما قال:

ليت المدائح تستوفي مناقـبـه  فما كليبٌ وأهل الأعصر الأول

ثم أردفه بقوله:

خذ ما تراه ودع شيئاً سمـعـت بـه  في طلعة الشمس ما يغنيك عن زجل

وكما قال:

نلومك يا عليّ لغير ذنـبٍ  لأنك قد زريت على العباد

ثم يقول بعد ذا:

كأنّ الهام في الهيجا عـيونٌ  وقد طبعت سيوفك من رقاد

وقد صنعت الأسنّة من همومٍ  فما يخطرن إلا في فـؤاد

وهذان البيتان وإن عدت سرقاتهما فما فيها ما له هذه الديباجة ولا فيه هذه الطلاوة.

وكما قال:   

وشبه الشيء منجذبٌ إليه  وأشبهنا بدنيانا الطّغـام

ثم يردفه بقوله:

ولو لم يعل إلا ذو محـلٍّ  تعالى الجيش وانحطّ القتام

وكما قال:

أذمّ إلى هذا الزمان أهيلـه  فأعلمهم فدمٌ وأحزمهم وغد

ثم يردفهما بقوله:

ومن نكد الدنيا على الحرّ أن يرى  عدوّا له ما من صداقـتـه بـدّ

قيل إنه لما ادعى النبوة قيل له: ما معجزك ? فقال: قولي ومن نكد الدنيا.. البيت وكما قال:

ستبكي شجوها فرسي ومهري  صفائح دمعها ماء الجسـوم

ثم يقول بعد هذا:

وكم من عائبٍ قولا صحيحا  وآفته من الفهم السّـقـيم

وكما قال:

صحب الناس قبلنا ذا الزمانا  وعناهم من شأنه ما عنانـا

ثم يقول:

وإذا لم يكن من الموت بدٌ  فمن العجز أن تكون جبانا

وكما قال:

نتاج رأيك في وقتٍ على عجلٍ  كلفظ حرفٍ وعاه سامعٌ فهم

ثم يقول:

صدمتهم بخميس أنت غـرتـه  وسمهريّته في وجهه غـمـم

فكان أثبت ما فيه جسومـهـم  يسقطن حولك والأرواح تنهزم

وكما قال:

وإنما يبلغ الإنسان طاقـتـه  ما كلّ ماشيةٍ بالرجل شملال

ثم يقول:

ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته  ما قاته، وفضول العيش أشغال

وهذا البيت فيه ثلاثة أمثال.

وكما قال:

عجبت لمن له قدٌ وحـدٌ  وينبو نبوة القصم الكهام

ثم يقول:

ولم أر في عيوب الناس شيئاً  كنقص القادرين على التمام

وكما قال:

ذرينـي أنـل مـا لا ينـال مـن الـعــلا  فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل

ثم يقول:

تريدين لقيان المعالي رخـيصةً  ولا بدّ دون الشّهد من إبر النحل

وكما قال:

أبا شجاعٍ بفارسٍ عضد الد  ولة فنّاخسرو شهنشاهـا

أساميا لم تزده مـعـرفةً  وإنما لـذةً ذكـرنـاهـا

فهذا يسير من كثير، وقليل من غزير. ولكن هذا القدر كاف في الدلالة على ماله من الجيد، فانظر إلى انحطاطه وارتفاعه. ولكن أين ارتفاعه. وهذان الرجلان قد سار ذكرهما وثبت أمرهما وأسكرت الألباب خمرهما.

وفي تعبٍ من يحسد الشمس ضوءها  ويزعم أن يأتي لـهـا بـضـريب

فالقاضي الفاضل رحمه الله انفرد بالترسل، وانفرد المتنبي بالشعر مع مالهما من الانحطاط، ولكن انحطاط المتنبي أوضع وأشنع.

ولو أن الناس إذا رأوا جوادا بخل في وقت، أو شجاعا فر في وقت، أو صانعا ماهرا قصر في وقت، يرمونهم بالعيب ويطعنون عليهم ولا يعدون لهم إحسانا ، لما كان في الوجود جواد ولا شجاع ولا صانع ماهر ولا خطيب بليغ ولا شاعر مجيد. وإنما العبرة بالأغلب والأكثر، والقليل معفو عنه، لأن العصمة لا تشترط إلا للمرسلين صلوات الله عليهم وسلامه.

وللمعري بيتان يفضل فيهما أبا الطيب على أبي تمام وهما:

ما حـبـيبٌ إلا أديبٌ ولـكــن  ما أراه يقارب الـمـتـنـبـي

ذا المعاني الغرائب اللائي أسهرن  جفوني دهرا وتيّمـن قـلـبـي

ولما فرغ أبو العلاء من تصنيف كتاب اللامع العزيزي في شرح ديوان أبي الطيب وقرىء عليه، أخذ الجماعة في وصفه. فقال: كأنما نظر المتنبي إلي بلحظ الغيب إذ يقول:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي  وأسمعت كلماتي من به صمم

وقيل: إن المعري كان إذا خلا ممن لا يثق إليه قال: ناولوني معجز أحمد، يعني ديوان أبي الطيب وإذا كان في غير الخلوة يقول: الشاعر.

وهذا شبيه بما يحكى عن أفلاطون من أنه كان إذا جلس للناس، واستدعي منه الكلام قال: اصبروا حتى يحضر الناس، أو ربما قال: حتى يحضر العقل. يريد أرسطو. وكان يسمي ديوان أبي تمام ذكرى حبيب ويسمي ديوان البحتري عبث الوليد. وهذا يحتمل المدح والذم. أما المدح فلأن عبث الوليد حلو على القلوب. وأما الذم فلأن العبث من حيث هو مذموم عند العقلاء.

ويسمي ديوان ابن هانىء المغربي رحى تطحن قرونا ولعمري إن أبا العلاء المعري ما أنصف ابن هانىء في هذه التسمية. أليس هو الذي يقول في القصيدة الرائية:   

وجنيتم ثمـر الـوقـائع يانـعـا  بالنصر من ورق الحديد الأخضر

ومنها لا يأكل السرحان شلو طعينهم  مما عليه من القنا المتكسـر

وبعض الناس يمغلط في هذا البيت ويقول: هو بالذم أشبه منه بالمدح، لأنه وصفهم بأنهم لكثرة ما يجتمعون على الواحد من أعدائهم، يكسرون القنا في الطعان عليه حتى يقتلوه، فيجتمع عليه من الرماح المكسرة ما يمنع السرحان من أكله وليس الأمر كذلك، لأن الطعين المراد به أنه من الممدوحين أنفسهم، والمعنى: أنه إذا مات منهم طعين لا يموت إلا بعد أن يجتمع عليه من الأعداء خلق كثير. فالطعين من الممدوحين لا من عدوهم وهذا في غاية المدح.

أليس له تلك القصيدة الفائية، وما فيها من تشبيه الكواكب حتى انتهى إلى ذكر السهى فقال:

كأنّ سهاها عاشقٌ بين عوّدٍ  فآونةً يبدو وآونة يخفـى

وهي مشهورة وكلها جيد. أليس له القصيدة الدالية التي أولها:

إمسحوا عن ناظري كحل السّهـاد  وانفضوا عن مضجعي شوك القتاد

أو خـذوا مـنـي مـا أبـقـيتـم  لا أحب الجسم مسلوب الـفـؤاد

ومنها في وصف الدروع:

كل رقراق الحواشي فوقـه  كعيونٍ من أفـاعٍ أو جـراد

فعلى الأجساد وقدٌ من سـنـا  وعلى الماذيّ صبغٌ من جساد

أليس له الفائية الأخرى التي يقول فيها:

ولقد هززت غصونها بثمارهـا  وهصرتهنّ مهفهفا فمهفهـفـا

فرددتها مـن راحـتـيه مـرّةً  وشربتها من مقلتيه قـرقـفـا

ما كان أفتكني لو اخترطت يدي  من ناظريك على رقيبك مرهفا

أليس له القصيدة الكافية التي أولها:

فتكات طرفك أم سـيوف أبـيك  وكؤوس خمرك أم مراشف فيك

أجلاد مرهفةٍ وفتك محـاجـرٍ  لا أنت راحـمةٌ ولا أهـلـوك

منها:

منعوك من سنة الكرى وسروا فلو  عثروا بطيفٍ طـارقٍ ظـنّـوك

ودعوك نشوى ما سقوك مـدامةً  لما تمايل عطفـك اتّـهـمـوك

وله أشياء مليحة.

وأما تخلصاته فمن أحسن ما يكون ولكن المعري تحامل عليه. وأما أبو الطيب فمن سعادته أنه شرح ديوانه ما يقارب الأربعين فاضلا . منهم الواحدي وحسبك ومنهم الإمام فخر الدين، وللشيخ تاج الدين الكندي رحمه الله حواش على ديوانه أحسن من حواشي الأصداغ في هوامش الوجنات، تشتمل على فوائد جمة وقواعد مهمة، من غريب لغة واعراب ومعنى ليس لها نظير. وقد سردت من شرح ديوانه في ترجمته في كتاب الوافي بالوفيات.

وقال الوزير المغربي في كتاب أدب الخواص وقد قال: المتنبي، وإخواننا المغاربة يقولون المتنبه.

قلت أنا: وهذا تحريف حسن من المغاربة، وما يليق أن يطلق عليه المتنبي. وكان الشيخ تاج الدين يروي لأبي الطيب بيتين يتصل سندهما به وليسا في ديوانه وهما:

أبعين مفتقرٍ إليك نظرتني  فأهنتني وقذفتني من حالق

لست الملوم أنا الملوم لأنني  أنزلت آمالي بغير الخالق

وعلى الجملة فقد رزق أبو الطيب من السعادة في شعره ما لم يرزقه غيره. وممن عابه وحط عليه الصاحب بن عباد في كراريس لطيفة، ومنهم ابن وكيع في المنصف وقال ابن شرف القيرواني في أبكار الأفكار وهو أجور من سدوم. والوحيد المغربي حط عليه وعلى ابن جني حطا بالغا ومنهم الحاتمي في رسيلة لطيفة، ورسالة أخرى أملاها الحاتمي في معايبه، وهي مجلدة لطيفة، وله الموازنة بينه وبين أبي تمام وللجرجاني رحمه الله كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه، ما خلا فيها من التمالي عليه، ومنهم الناصح ابن الدهان في رسالة سماها الرسالة السعيدية في المآخذ الكندية.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان الإنسان كالقدح، لقال الناس ولولا. وما لمن يعيب جيده جواب إلا ما قاله هو في وصف قصديته: بذي الغباوة من انشادها صمم  كما تضر رياح الورد بالجعل 

 

حول وصل همزة القطع وقطع همزة الوصل

قال في المعاظلة اللفظية أيضاً : ومن هذا القسم وصل همزة القطع وهو محسوب من جائزات الشعر التي لا تجوز في الكلام المنثور، وكذلك قطع همزة الوصل.

ثم أورد قول أبي تمام:   

فأصبح يلقاني الزمان من آجله  بإعظلام مولود ورأفة والـد

أقول: أما قطع همزة الوصل فإنه معذور فيها إذا عدها عيبا، وهي عندي كمد المقصور في القبح. ووصل همزة القطع أراها كمد المقصور وهي أحسن. وذلك أنك تنقل الأثقل إلى الأخف فيهما بخلاف ذينك فإنك تنقل الأخف إلى الأثقل.

وأما جعله قول أبي تمام من أجله مما لا يجوز إلا في الشعر فقط، فليس الأمر كذلك، وهذا من باب النقل، وقراء التجويد يعرفون ذلك ولا يسمونه وصل الهمز، بل نقل الحركة من المتحرك إلى الساكن كقوله تعالى "ولوَ انهم صبروا" فإن واو لو ساكنه، فإذا أرادوا النقل نقلوا حركة الهمزة التي تليها إليها. قالوا: "ولوَ انهم" وهذا مشهور ظاهر لا ينكر.

وقرأوا قوله تعالى: "منَ اجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل" بنقل حركة الهمزة إلى النون في من وهذا مثل قول أبي تمام.

وإذا كان هذه القاعدة مطردة في القرآن جميعه من أوله إلى آخره، كيف يمنعه ويجعله من ضرورات الشعر والمعاظلة في الألفاظ.

نعم يقبح في مثل قول المتنبي:

يوسّطه المفاوز كـلّ يومٍ  طلاب الطالبين لا الإنتظار

وقوله أيضاً : وشدة الظن لا الاستدلال فإنه وإن كان على القاعدة فإنه مستثقل كما تراه.

?الصناعة المعنوية قال في المقالة الثانية في الصناعة المعنوية وقد ذكر حكم اليونان وعلومهم إن أبا نواس ومسلم بن الوليد وأبا تمام والبحتري وأبا الطيب وغيرهم كعبد الحميد وابن العميد والصابي لم يتعلموا من كتب اليونان شيئاً وجاؤوا بما جاؤوا به ثم إنه مثل بنفسه وإنه لم يراع ذلك وجاء بما جاء به، وادعى هنا ما ادعاه لنفسه.

أقول: إنني ما المشاحة هنا إلا في حكمه أن هؤلاء ما اشتغلوا بشيء من ذلك. فأقول له: من أين عملت هذا حتى تحكم به ? أما دعواك لنفسك فما أعارضك فيها، لأن الناس أخبر بنفوسهم، وأما أبو نواس فقد قيل: إنه كان يشتغل بالفقه حتى قيل فيه: أبو نواس فقيه غلب عليه الشعر، والشافعي شاعر غلب عليه الفقه. ومع ذلك فلم يظهر عنه فقه، كما لم يظهر عنه اشتغال بعلوم اليونان. وعدم الدليل لا يدل على عدم المدلول.

على أنه كان في زمن الرشيد والأمين والمأمون، وهذه العلوم اشتهرت في أيامهم، خصوصا في زمن المأمون، فإنه رتب الذهب لمن يحل كتب اليونان من اليونانية إلى العربية مثل حنين بن إسحق، وابن بختيشوع وغيرهما.

ألا ترى أبا نواس قال:

فقل لمن يدّعي في العلم فلسـفةً  حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء

فإن قلت: هذا مما يدل على رفضه لهذه العلوم وتركه إياها، قلت إنما قال هذا في سياق أبيات يغري فيها بالسكر ودفع الخمار بالخمر والإدمان لذلك، والانهماك في اللذات ومواصلة الشراب ومجالس الأنس، حتى انتهى إلى قومه هذا البيت ردا على القائلين بالحكمة، وأن الأخذ من الشراب كثيراً محرم عقلا ، وأن الاكثار من ذلك مضر من حيث الطب. فأخذ يسفه الحكيم في رأيه ويقول: حفظت شيئاً من الحكمة، وغابت عنك أشياء في إدمان الشراب من اللذاذات والابتهاج على عادة الشعراء في الإغراء.

ثم إنه قال فيها:

لا تحظر العفو ان كنت امرءا حرجا  فإنّ حـظـركـه بـالـدين ازراء

وهذا على عادة الشعراء في مجونهم، وإنما أبو نواس أكثر من الشعر فدون عنه، ولم يضع هو تلك العلوم شيئاً ، لا جرم أنه لم يظهر عنه شيء.

وقول أبي نواس:

أباح العراقي النبـيذ وشـربـه  وقال: حرامان المدامة والسكر

وقال الحجازي: الشرابان واحـدٌ  فحلّت لنا من بين قوليهما الخمر

سآخذ من قوليهما طرفـيهـمـا  وأشربها لا فارق الوازر الوزر

فمن أنعم النظر في هذه الأبيات، علم أن أبا نواس كان منطقيا ، فإن استنتاجه حل الخمر في مقدمتي كلام الفقيه العراقي والحجازي يدل على ذلك. وهذا على عادة مجاز الشعر وإلا فالصحيح حرمة الخمر.

 

هل صح اطلاع بعض الشعراء والكتاب على حكم اليونان وعلومهم

وأما أبو الطيب فقد قال: أنا وأبو تمام حكيمان وإنما الشاعر البحتري، وكلام هذين الشاعرين يدل على أنهما ما عريا عن شيء من علوم الفلسفة. خصوصا المتنبي والحاتمية تدل على أنه كان ينظر في كلاما قوم. ألا ترى قوله يمدح ابن العميد:   

من مبلغ الأعراب أني بعدهـا  جالست رسطاليس والإسكندرا

وسمعت بطليموس دارس كتبه  متبديا متملكا مـتـحـضـرا

وهذا بعيد أن يصدر ممن لم ينظر في كتب القوم.

وقال المعري وقد أورد لأبي الطيب قوله:

إلف هذا الهواء أوقع في الأن  فس أن الحمام مر الـمـذاق

والأسى قبل فرقة الروح عجزٌ  والأسى لا يكون بعد الفـراق

هذان البيتان يفضلان كتابا من كتب اليونان، لتناهيهما في الصدق وحسن النظر، ولو لم يكن له سواهما، لكفاه ذلك شرفا .

وأما ابن العميد فقد قال ابن خلكان رحمه الله تعالى في ترجمته: وكان متوسعا في علوم الفلسفة والنجوم.

قلت: والبيتان الرائيان المذكوران لأبي الطيب في مدحه يؤيدان ما قاله ابن خلكان.

وأقول: أليس هو بصاحب الصاحب بن عباد، وقد كان من رجالات المعتزلة، وله في أصولهم مصنف. ومن المستحيل أن معتزليا لا ينظر في كتب الفلسفة.

وأما ابن أبي الحديد، فقد أجابه عن دعواه أن الإنسان لا يحتاج إلى المنطق ولا إلى هذه العلوم، في الفلك الدائر. والصحيح أنه من جهل شيئاً عاداه.

 

شاهد الحال ودوره في استخراج المعاني

قال في هذا: ومما يعين على استخراج المعاني شاهد الحال.

أقول: ما أنكر أن مشاهدة الحال في الخارج تعين على تصور المعاني، إلا أن استنباط المعاني لا يفتقر فيه إلى المشاهدة، وقد جاء في الوجود جماعة من العميان الذين لم يشاهدوا الصور في الخارج، وأتوا بالتشبيهات البديعة، مثل بشار بن برد حيث قال.

كأن مثار النّفع فوق رؤوسنا  وأسيافنا ليلٌ تهاوى كواكبه

ومثل أبي العلاء المعري حيث يقول:

ولاح هلالٌ مثل نونٍ أجـادهـا  بذوب النّضار الكاتب ابن هلال

وحيث يقول:

ليلتي هذه عروسٌ من الـزّن  ج عليها قلائدٌ مـن جـمـان

وسهيلٌ كوجنة الحبّ في اللـو  ن وقلب المحب في الخفقـان

ثم شاب الدّجى وخاف من الهج  ر فغطى المشيب بالزعفران

وله أشياء كثيرة من التشبيه الغريب.

ومثل أبي البقاء العكبري حيث يقول:

وغديرٍ رقت حواشيه حتـى  بان في قعره الذي كان ساخا

وكأن الـطـيور إذ وردتـه  من صفا مائه تزق فراخـا

وما أحلى قول أبي طاهر حيدر في مثل هذا:

وضاحيةٍ وردت بها غـديرا  يقدّر من صفاء الماء أرضا

كأنّ الوحش حيث تغب فيه  يقبل بعضها للشوق بعضـا

ومثل جماعة تقدموا من الأضراء كأبي العيناء وابن سيده صاحب المحكم، والشاطبي رحمه الله، وغير هؤلاء ممن أتى بالغرائب، ولم يستعينوا بحاسة البصر.

فإن قلت: إن هؤلاء إن كانوا ما رأوا ولا شاهدوا، فقد سمعوا ما قاله غيرهم، وشبهوا كما شبه غيرهم. قلت: ما نازعتك في ذلك، وإنما أردت أن التشبيه لا يفتقر إلى الصورة الخارجة. فإن الناظم قد يتصور المعنى في ذهنه من عير أن يشاهده في الخارج، ويولد المعنى من معنى آخر. كقول ابن المعتز.

وأرى الثريّا في السماء كأنها  قدمٌ تبدّت من ثـياب حـداد

فإنه ولد هذا المعنى من قول الآخر:

كأن كؤوس الشّرب والليل مظلمٌ  وجوه عذارى في ملاحف سود

وكما قال ابن الذروي وقد ذكر أهل النوبة في مدح صلاح الدين:

سودٌ وتحمرّ الظبى حولها  كأعين الرّمد بدت للأساه

أو لا فسمرٌ تنتحيها القنـا  مثل دنانٍ بزلت للسّقـاه

فإنه ولد هذا المعنى الأول من قول الأرجاني:

وكأنّ كلّ شقيقةٍ محـمـرةٍ  كحلت محاجرها بأحمر قان

عينٌ لإنسان وقد رمدت فما  يبدو لرامقها سوى الإنسان

وولد المعنى الثاني من قول أبي العلاء المعري في تشبيه البرق:

إذا ما اهتاج أحمر مستطيرا  حسبت الليل زنجيا جريحا

ولعمري لقد تصرف في هذا التشبيه الثاني تصرفا حسنا .

وكما ولدت أنا من قول الحصري:

الناس كالأرض ومنها هـم  من خشن اللمس ومن لـيّن

مروٌ تشكّى الرجل منه الأذى  وإثمدٌ يجعل فـي الأعـين

فنقلته إلى معنى المتنبي المشهور وقلت:   

مولى تفرع من كرامٍ وجههـم  وبنانهم للمجتلي والمجـتـنـي

سادوا الأنام علا وهم من جنسهم  ومن الحجارة إثمدٌ في الأعين

وولدت أيضاً من قول بعض العرب:

كأنّ هلالـه مـرآة قـينٍ  لها شطرٌ يلوح من الغلاف

فقلت في العذار:

قلت إذ قيل لي تسلّ فـهـذا  صدغه قد دجا وكـان ينـير

هي مرآة خده غاب منـهـا  في غلاف العذار شيءٌ يسير

أو يعكس المعنى إلى ضده وهو في التشبيه كثير، لأن التشبيه واقع بين طرفين، شبيه ومشبه به. فإذا شبهت النجوم بالشرار جاز أن تشبه الشرار بالنجوم، وإذا شبهت البرق بالسيف، جاز أن تشبه السيف بالبرق، وإذا شبهت الهلال بالقلامة، جاز أن تشبه القلامة بالهلال.

قال ابن المعتز:

ولاح ضوء هلالٍ كاد يفضحنا  مثل القلامة إذ قدّت من الظفر

وعكس ذلك سعد الدين ابن عربي فقال في مليح قلم أظافره:

أبعدت ظفرك وهو بعضك فالذي  يهواك أجدر بالبعـاد الأطـول

فأجابني:

أتظنني قـلـمـتـهـا  عن حاجةٍ، لا بل لمعنىً عنّ لي

لأريك يا من بالهلال يقيسـنـي  أنّ الهلال قلامةٌ من أنمـلـي

وما أحسن قول الحسن بن إبراهيم النطري في المقص والأنامل والقلامات والأظفار:

ما عاملٌ يحكي إذا استعملته  وأعانه خمسٌ بهـنّ يدور

صقرا يصيد أهلّةً يلمعن من  أعلى بدورٍ تحتهنّ بحـور

وعكست أنا قول بعضهم في الورد:

كأنّ احمرار الورد والطلّ فوقه  خدودٌ توالى فوقها الدمع بالوكف

فقلت من أبيات:

أقسمت ما سجعت ورق الحمائم فـي  روضٍ على مثل عطفيها ولا صدحت

وكلما اعتدلت بالـمـيل قـامـتـهـا  رأيتها فوق حسن الغصن قد رجحت

وما اكتسى خدّها من لؤلـؤٍ عـرقـا  لكنها وردةٌ بالطل قـدر رشـحـت

وعكست أيضاً التشبيه الوارد في قوله تعالى "وهي تجري بهم في موج كالجبال" فقلت:

قد ركبّنا على البريد لمصرٍ  بحر رملٍ عجاجه عجّاج

فعكسنا التشبيه لما جرينـا  في جبالٍ كأنهـا أمـواج

ومثل هذا يسمى غلبة الفرع على الأصل، كما إذا شبهت العرجون بالهلال، والغصن بالقد، والنرجس بالعيون، والليل بالشعر والصبح بالثغر. وهو مشهور.

 

فضل المتنبي في لاميته في خيمة سيف الدولة

قال بعدما أورد أبيات المتنبي في الخيمة التي أولها:

أينفع في الخيمة العذّل

وقد ساق منها خمسة عشر بيتا : وهذه الأبيات قد اشتملت على معان عديدة، وكفى بالمتنبي فضلا أن يأتي بمثلها.

أقول: أين هذا الكلام في حق المتنبي من الكلام عند إيراد قوله: فلا تبرم الأقدار ما هو حالل... البيت 

والإزراء والطعن على المعري لتفضيله إياه.

 

هل أبدع أبو نواس في أبياته: تدار علينا الراح في عسجدية

قال بعدما أورد أبيات أبي نواس: تجار علينا الراح في عسجديةٍ... الأبيات الثلاثة. 

وقد أكثر العلماء من وصف هذه الأبيات وهذا المعنى، وقولهم فيه إنه معنى مبتدع. ويحكى عن الجاحظ أنه قال: ما زال الشعراء يتناقلون المعاني قديما وحديثا إلا هذا المعنى، فإن أبا نواس انفرد بإبداعه.

وما أعلم أنا ما أقول لهؤلاء سوى أن أقول: قد تجاوزتم حد الإكثار، ومن الأمثال السائرة: بدون هذا يباع الحمار. وفصاحة هذا الشعر عندي هي الموصوفة لا هذا المعنى. فإنه كبير كلفة فيه. لأن أبا نواس رأى كأسا من الذهب ذات تصاوير فحكاها في شعره.

والذي عندي في هذا، أنه من المعاني المشاهدة، فإن هذه الخمر لم تحمل إلا ماء يسيرا ، وكانت تستغرق صور هذا الكأس إلى مكان جيوبها، وكان الماء فيها قليلا بقدر القلانس التي على رؤوسها وهذا حكاية حال مشاهدة بالبصر.

أقول: كفى بهذا الرجل رحمه الله أن يقول مثل هذا، وما أعرف كتابا من أمهات كتب الأدب مثل الروضة للمبرد والذخيرة لابن بسام وزهر الآداب للحصري إلا وقد تضمن ذكر هذه الأبيات والثناء عليها. وحسبك بكلام يثني عليه أبو عثمان عمرو الجاحظ، وهو من أحذق أئمة الأدب، وأعرفهم بما يقول، وأبصرهم بمدارك العقول، وقوله في مثل هذا حجة، وما قرره في الأبيات هو المحجة.

وما أحسن قول القاضي الفاضل: وأما الجاحظ رحمه الله فما منا معاشر الكتاب إلا من دخل من كتبه الحارة، وشن الغارة، وخرج وعلى الكتف منها كاره.

وقد أولع الفاضل رحمه الله بذكره في ترسله، وذكر تصانيفه، ولو لم يكن له في كتب الأدب إلا كتاب البيان والتبيين لكفاه ذلك فخرا. ويقال: مما فضل الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم على غيرها من الأمم، عمر بن الخطاب رضي الله عنه بسياسته، والحسن البصري بعلمه، والجاحظ ببيانه.

ويحكى عنه أنه قال: دخلت ديوان المكاتبات ببغداد، فرأيت قوما قد صقلوا ثيابهم، وصفوا عمائمهم، ووشوا طرزهم. ثم اختبرتهم، فوجدتهم كما قال الله تعالى: "فأما الزَّبد فيذهبُ جُفاء" ظواهر نظيفة، وبواطن سخيفة "فويل لهم مما كتبت أيديهم، وويل لهم مما يكسبون" ومن أجوبته ما يحكى عنه أنه اجتمع بالجماز في مجلس بالبصرة. فقال له الجماز: كم نارا في اللغة ? فقال: نار الحرب، ونار الشجر، ونار الحباحب، ونار المعدة، والنار المعروفة. فقال له: تركت أبلغ النيران. قال: وما هي. قال: نار حر أمك التي كلما ألقي فيها فوج سألتها خزنتها. فقال الجاحظ: أما نار أمي فقد قضيت أن لها خزانا ، الشأن في حر أمك التي يقال لها: هل امتلأت ? وتقول: هل من مزيد. والجاحظ أشهر من أن يذكر بمحاسن وأنا أحكي ما قاله الجاحظ. فإن ابن الأثير رحمه الله روج المقال. والذي نقله أئمة الأدب عنه أنه قال: وجدنا المعاني تقلب، ويؤخذ بعضها من بعض، إلا قول عنترة في الذباب:

وخلا الذباب بها فليس ببـارحٍ  غردا كفعل الشارب المترنـم

هزجا يحكّ ذراعه بـذراعـه  قدح المنكبّ على الزّناد الأجذم

وقول أبي نواس في تصاوير الكأس:

تدار علينا الراح في عسجدية... وأنشد الأبيات انتهى. 

قال ابن بسام في الذخيرة وقد ذكر أن أبا نواس ولد هذا المعنى من قول امرىء القيس:

فلما استطابوا صبّ في الصحن نصفه  وشجّت بماءٍ غير طـرقٍ ولا كـدر

فجعل الشراب والماء نصفين لقوة الشراب، فتسلق عليه أبو نواس وأخفاه بما شغل به الكلام من ذكره الصور المنقوشة، إلا أنها سرقة مليحة.

وكرر أبو نواس هذا المعنى عجبا به في مواضع. كقوله:

بنينا على كسرى سـمـاء مـدامةٍ  مكلّلةً حـافـاتـهـا بـنـجـوم

فلو ردّ في كسرى بن ساسان روحه  إذن لاصطفـانـا دون كـل نـديم

وأخذه الناشىء فولد معنى زائدا عليه فقال:

في كأسها صورٌ تظنّ لحسنها  عربا برزن من الحجال وغيدا

وإذا المزاج أثارها فتنمنمـت  ذهبا ودرا تـوأمـا وفـريدا

فكأنهنّ لبسن ذاك مجـاسـدا  وجعلن ذا لنحورهنّ عقـودا

وقال ابن المعتز:

وكأسٍ من زجاج فيه أسدٌ  فرائسهنّ ألباب الرجال

وألم بهذا ابن بطال البطليوسي فقال:

وغابٍ من الأكواس فيها ضراغمٌ  من الرّاح، ألباب الرجال فريسها

قرعت بها سنّ الهموم فأقلعـت  وقد كاد يسطو بالفؤاد رسيسهـا

وقال أبو تمام ابن رباح:

وكاسٍ بدا كسرى بها في قـرارةٍ  غريقا ، ولكن في خليجٍ من الخمر

وما صوّرته فارسٌ عـبـثـا بـه  ولكنّهم جاؤوا بأخفى من السحـر

أشاروا بما دانوا له فـي حـياتـه  فنومي إليه بالسجـود ولا نـدري

هذا ما أورده ابن بسام في معنى الكأس المنقوشة.

ولا بأس بإيراد ما جاء في ذلك للشعراء المتأخرين، من ذلك قول ابن سناء الملك.

ما الـدرّ إلا ذا الـحـبــا  ب وإننـي بـالـدر أدرى

شعري وشعرى في السمـا  ء وفي كؤوسك ألف شعرى

منّـت عـلـيك ولا كـمـا  منّت على أشلاء كـسـرى

الخلق لـمـا عـاش قـد  سجدوا له طوعا وقسـرا

والكـل لـمـا مـات قـد  سجدوا له في الكأس سكرا

ولا يخفى على ذي اللب أن هذا مأخوذ من قول أبي تمام ؟ بن رباح وقد تقدم وهو أحسن من هذا.

وقوله أيضاً :

ألا إنّ شرّاب المدام هم النـاس  وغيرهم فيهم جنونٌ ووسـواس

فيا ليت أني مثل كسرى مصورٌ  فليس يزال الدّهر في كفه كاس

وهذا مأخوذ من قول أبي فراس. وسيأتي فيما بعد.

وقوله أيضاً وهو في غاية الحسن:

شربـنـا عـلـى هـذا وذاك مـــدامةً  بدت كالعقيق الرطب والذهب الـرّخـص

أعيد لنا في كأسهـا شـخـص قـيصـرٍ  وكسرى، فكادت تبعث الروح في الشخص

قياصرةٌ في قصـر كـسـرى وربـمـا  مجنّا فقلنا بل مـسـاكـين فـي خـص

وقول ابن قلاقس الإسكندري:

لو لم يصبها الماء حين توقدت  بيد المدير لخفت أن يتسعّـرا

وبنيتها قصرا سقيت براحتـي  كسرى أنوشروان فيه وقيصرا

وقوله أيضاً

أنهكت جسمها السـنـين فـلـولا  عرفها لم يكن بهـا ذا اعـتـراف

فاحني في الكأس جسم كسرى براحٍ  تبعث الروح منه في الأعـطـاف

وقول ابن سناء الملك الذي تقدم أكمل في الحسن.

وقوله أيضاً :

بزجاجةٍ دارت وفي جنباتهـا  كسرى أنوشروان في إيوانـه

خلعت على عطفيه خلعة قهوةٍ  وسلبتها فغدوت في سلطانـه

يعني أنه لبسها بشربه لها فغدا في سلطانه، لما يجده السكران من العزة. كما قال المنخل شاعر الحماسة:

وإذا سكرت فإنـنـي  ربّ الخورنق والسدير

وإذا صحوت فإنـنـي  ربّ الشّويهة والبعير

وقول ابن الذروي:

ومصوّرٍ نازعت فـي  ه على المدامة قيصرا

وسلبت منه متـوّجـا  حتى رجعت مسـوّرا

ومضيت من عقيانـه  ولجينه أغنى الـورى

وقول ابن قلاقس أيضاً :

وزجاجةٍ حيّاك منها قيصـرٌ  وكأنما هو في جوانب قصره

ما ألبسته الراح ثوبا مذهـبـا  إلا وقلده الحـبـاب بـدرّه

وهذا مأخوذ من قول الناشىء، وقد تقدم.

وما أحسن قول أبي فراس.

أغمام ما يدريك كيف قـتـالـنـا  والخيل تحت النقع كـالأشـبـاح

نطفو ونرسب في الدماء كأنـنـا  صور الفوارس في كؤوس الراح

ومما اتفق لي وفيه تورية:

كؤوس المدام تحب الصفا  فكن لتصاويرها مبطلا

ودعها سواذج من نقشها  فأحسن ما ذهّبت بالطّلا

وقلت أيضاً مضمنا البيت المشهور، واهتدمت منه ما اهتدمت ليطابق المعنى الذي تخيلته:

ومشمولةٍ قد هام كسرى بكأسهـا  فأضحى ينادي وهو فيها مصوّر

وقفت لشوقي من وراء زجـاجةٍ  إلى الراح من فرط الصابة أنظر

وأما قول عنترة في الذباب، فقد زعم مشايخ الأدب أنه من التشبيهات العقم. وقد أخذه ابن الرومي فقال:

وأذكى نسيم الروض ريعان ظلـه  وغنّى مغنّي الطير فيه فرجّعـا

وغرد ربعيّ الـذبـاب خـلالـه  كما حثحثت النّدمان صنجا مشرّعا

فكانت أرانين الذبـاب هـنـاكـم  على شدوات الطير ضربا موقّعا

وقال ابن عبدون:

ساروا ومسك الدياجي غير منهوب  وطرّرة الشرق غفلٌ دون تذهيب

على ربى لم يزل شادي الذباب بها  يلقي بآنق ملفوظٍ ومـضـروب

وقد أخذه من قول المثقب العبدي يذكر الناقة:

وتستمع الذباب إذا تـغـنّـى  كتغريد الحمام على الغصون

وقول الأقيشر:

وقد تقوم على رأسي منـعّـمةٌ  لها إذا طربت من صوتها غنج

فترفع الصوت أحيانا وتخفضه  كما يطنّ ذباب الروضة الهزج

وقد أخذ ابن عبدون قوله من قول الأخطل في وصف ثور وحشي. وهو:

فردا يغـنـيّه ذبـان الــرياض  كما غنّى الغواة بصنجٍ عند أسوار

وقال أبو بكر بن سعد البطليوسي:

كأنّ أهازيج الذبـاب أسـاقـفٌ  لها من أزاهير الرياض محاريب

ولم يجسر أحد على هذا المعنى قبل عنترة. غير أن ذا الرّمة نقل معنى الصفة إلى الجندب فقال:

كأن رجليه رجلا مقطفٍ عجلٍ  إذا تجاذب من برديه تـرنـيم

وقال السلامي في زنبور وأحسن:

ولابس لونٍ واحدٍ وهو طـائرٌ  ملونة أبـراده وهـو واقـع

أغرّ محشّى الطيلسـان مـديجٍ  وسود المنايا في حشـاه ودائع

إذا حك أعلى رأسه فكأنـمـا  بسالفتيه مـن يديه جـوامـع

بدا فارسي الزيّ يعقد خصـره  ومئزره التبري أصفر فاقـع

يرجّع ألحان الغريض ومعبـدٍ  ويسقي كؤوسا ملؤها السمّ ناقع

قوله: إذا حك أعلى رأسه.. البيت، من قول مسلم بن الوليد:

فغطّت بأيديها ثمار نحـورهـا  كأيدي الأساري أثقلتها الجوامع

نقل السلامي هذا المعنى إلى الزنبور لما ولده من هنا، وشارك عنترة في الصفة مشاركة خفية. وكذا يكون التخيل الشعري الصحيح.

وما أحلى قول بعض الشعراء:

فعل الأديب إذا خلا بهمومه  فعل الذباب يرنّ عند فراغه

فتراه يفرك راحتيه نـدامةً  منه ويتبعها بلطم دمـاغـه

لم أورد هذه المقاطيع في الكأس المصورة والذباب وأكثرت منها إلا لأن هذا الموضع من محزات الأدب وغريب المعاني. ولعل هذا القدر ما اجتمع لأحد فيهما.

وأما قوله بدون هذا يباع الحمار، أصل هذا المثل أن رجلا أراد أن يشتري حمارا من آخر يدعى أبا يسار، فجعل يصفه ويبالغ فيه إلى أن قال: تصيد به النعام معقولا فقال له: شاكه أبا يسار، بدون ذا ينفق الحمار. وشاكه معناه قارب أي لا تغل.

قال: وكذلك ورد قوله.

يا شقيق النفس من حـكـم  نمت عن ليلي ولـم أنـم

فاسقني البكر التي اعتجرت  بخمار الشيب في الرّحـم

وهذا معنى مخترع لم يسبق إليه، وهو دقيق يكاد لدقته أن يلتحق بالمعاني التي تستخرج من غير شاهد حال مصورة. وساق حكاية جرت في حضرة الرشيد في استخراج معناه، وهي مشهورة.

أقول: وأبو نواس ممن له المعاني التي ظاهرها سهل وباطنها مشكل في غاية الدقة، كقوله:

أما ترى الشمس حلّت الحملا  وطاب وزن الزمان واعتدلا

وغنت الطير بعد عجمتـهـا  واستوفت الراح حولها كملا

محل الإشكال فيه واستوفت الراح حولها.

قالوا: من حين عصير الراح، إلى أن تحل الشمس الحمل ما يكون غير ستة أشهر أو ما حولها، فكونه يدعي أن الراح استوفت الحول كاملا غير صحيح، والحول اثنا عشر شهرا. الجواب من وجوه: أحدها وهو أقواها، أن الضمير في حولها لا يعود على الراح، وإنما يعود على الشمس. كأنه قال: واستوفت الراح حول الشمس كاملا .

وثانيهما، أن المراد بالحول هنا إنما هو الغاية والتمام، والمعنى: استوفت الراح بلوغها وصلاحها لأن تستعمل وترشف. وفي هذه المدة ينتهي صلاح الخمرة، وكل شيء بلغ غاية تطلب منه، فقد استوفى حوله. كأنه من: حال عن هيئته إلى هيئة أخرى. وهذا الذي يفهم من كلامه.

وكذا قوله:

ظلت حميّا الكأس تبسطـنـا  حتى تهتّك بيننا الـسـتـر

في مجلسٍ ضحك السرور به  عن ناجذيه، وحلّت الخمـر

ذكروا في هذا أربعة أوجه: أحدها أن طيب المكان وكمال السرور، أباح حرمتها على عادة الشعراء في مبالغاتهم ثانيها أن يكون آلى على نفسه أن لا يتناول الخمر إلا بعد اجتماعه بمحبوبه، فكان الاجتماع مخرجا من يمينه. كقول امرىء القيس:

حلّت لي الخمر وكنت امرءا  عن شربها في شغلٍ شاغل

ثالثها يريد بحلت نزلت، من الحلول في المكان.

رابعها: يريد أنهم استحلوها بدخولهم في السكر وذهول عقلهم وكنت وقفت بالديار المصرية على جزء فيه كلام لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب على قول الشاعر.

بيضٌ مفارقنا تغلي مراجلنا  نأسو بأموالنا آثـار أيدينـا

وقد ذكر في قوله: بيض مفارقنا مئتي وجه وثلاثة أوجه، في احتمال معنى هاتين اللفظتين.

وقد وجدت لأبي الحسن الطوسي الفقيه بيتين، يسأل عن معنى الثاني منهما: وهما:

منّينني حـينـا فـلـمـا  أن مللت من التمـنـي

عرّضن لي بالوصل حتى  قلت قد، أعرضن عني

الإشكال فيه أنه كيف يعرضن له بالوصل، وهو يدعي أنهن أعرضن عنه. والمعرض لا يعرض بالوصل.

والجواب: أن قد هنا بمعنى حسب، وذلك أحد مواردها. كقول أبي تمام: قدك اتّئب أربيت في الغلواء. 

أي: حسبك. والمعنى: منينني زمانا إلى أن مللت، ثم عرضن لي بالوصال حتى إذا قلت هذا حسبي، أعرضن عني.

واتفق لي فيما قلت بيتان، ثانيهما مشكل، وهما:

قال وقد أبصر دمعي دما  هذا وما رعتك بالبـين

فقلت: لما فنيت أدمعـي  بكيت بالدمع بلا عـين

الإشكال في ذلك أنه: كيف يعترف بأن دموعه فنيت ونفدت، ثم يقول بعد ذلك: بكيت بالدمع بلا عين. وكيف يتفق البكاء بلا عين. ? والجواب: أنه قال أولا إنه أبصره وقد بكى دما فأنكر عليه ذلك، فقال لما نفدت الدموع ولم يبق لي دمع، بكيت بالدم.

والعين هنا إنما يراد بها أحد حروف الهجاء أخت العين المعجمة، لا العين التي هي الجارحة من الإنسان حاسة البصر، فإن الدمع إذا حذفت منه العين كان دما .

 

هل يمكن إبداع معنى من معنى غير مبتدع

قال: واعلم أنه قد يستخرج من المعنى الذي ليس بمبتدع معنى مبتدع فمن ذلك قول الشاعر المعروف بابن السراج في الفهد:

تنافس الليل فيه والنهار معا  فمقمّصاه بجلبابٍ من المقل

وليس هذا من المعاني الغريبة، ولكنه تشبيه حسن واقع في موقعه، وقد جاء بعده شاعر من أهل الموصل يقال له ابن مسنهر، فاستخرج من هذا البيت معنى غريبا فقال:

ونقّطته حباءً كي يسالـمـهـا  من المنايا نعاج الرمل بالحدق

أقول: أول أبيات ابن السراج:

شثن البراثن في فيه وفي يده  ما للقواضب والعسّالة الذبل

والشمس مذ لقبوا بالغزالة لم  تطلع لخيفته إلا على وجل

وما أدري معنى قوله: استخرج منه معنى غريبا : أي غريب أتى به الثاني ? والمعنى الغريب هو أن بياض الفهد وسواده يشبه العيون. هذا هو روح هذا المعنى، وأما أن الليل والنهار تنافسا فيه، وأن النعاج سالمته ونقطته، ليس بكثير أمر.

أما انتزاع معنى غريب من معنى آخر، فكقول مسلم بن الوليد:

تظلّم المال والأعداء مـن يده  لا زال للمال والأعداء ظلاّما

انتزعه من قول أبي نواس:

بحّ صوت المال مما  منك يدعو ويصيح

فقول مسلم أفصح ومعناه أبلغ.

وقد اتفقت لي انتزاعات معان من معان هي دونها غريبة.

من ذلك قول بيليك القبجاقي المعري في الأترج.

وأترجّةٍ جاءت إلـيك هـديةً  فشبهت منها الريح ريح حبيب

إذا نظرت عيني إليها تمثلـت  بكف مريضٍ مدها لحـبـيب

انتزعت منه معنى آخر فقلت:

أيا حسن أترجٍ يلوح لنـاظـري  عليه من الأوراق خضر الغلائل

حكى مستهاما غيّر البين حـالـه  وقد عدّ أيام الجفا بـالأنـامـل

ومن ذلك قول شهاب الدين التلعفري:

جريت بحمراء الكميت إلى الشـقـرا  مفر الهوى طيبا وأعرضت عن مقرا

انتزعت منه معنى آخر فقلت:

وحمراء لمّا ترشفـتـهـا  جنيت المسرّة فيما جنـيت

ونلت المسرات دون الورى  لأني سبقتهم بالـكـمـيت

ومن ذلك قول مهيار الديلمي:

هل السابق العجلان يملك أمره  فما كل سير اليعملات وخـيد

رويدا بأخفاف المطايا فإنـمـا  تداس جباهٌ في الثرى وخـدود

انتزعت منه معنى آخر فقلت:

أضحى نسيم دمشق حياها الحيا  يمشي الهوينا في ظلال حماها

وكأنه من مائها وهضـابـهـا  ما داس إلا أعينا وجـبـاهـا

ومن ذلك قول ابن التلمساني:

ساقٍ يريني قلبه قسوةً  وكلّ ساقٍ قلبه قاس

انتزعت منه معنى آخر فقلت:

قلب الدنّ من أحبّ فأضـحـت  نفحة الندّ من حمـيّاه تـهـدى

قال لي اعجب فقلت غير عجيبٍ  كلّ دنٍ قلـبـتـه كـان نـدّا

ومن أحسن ما وقفت عليه في الفهد قول القائل: ومتصفٍ بالفتك عند اكتسابـه  على ظفره شبه الدماء ونابه

كأنّ مهاة الفلك لما انتهى بـه  مداه إلى سرب المها وانتهابه

رمته بشهب الجو خوف انتقامه  فأطفأها في عسجدٍ من إهابه

 

مناقشة نموذج من إنشاء ابن الأثير

قال: ومما ذكرته في فصل من كتاب منازلة بلد، فذكرت القتال بالمنجنيق فقلت: فنزلنا بمرأى منه ومسمع، واستدرنا به استدارة الخاتم بالإصبع، ونصبت المنجنيقات فأنشأت سحبا صعبة القياد، مختصة بالربا دون الوهاد. فلم تزل تقذف جلامد السور بوبل من جلمودها، وتفجؤه برعودها قبل بروقها وبروق السحب قبل رعودها، حتى غادرت الحزن منه سهلا، والعامر بلقعا محلا.

وفي هذا معنيان غريبان: أحدهما أن هذه السحب تخص الربا دون الوهاد، والآخر أن رعودها قبل بروقها.

أقول: ما أدري معنى قوله في تشبيه الغبار بأنه سحب صعبة القياد ما هو ? وكونه ادعى أن تخصيص السحب بالربا دون الوهاد أمر غريب. في هذا تعسف، وبعض السحب تسقي الوهاد دون الربا، وبعضها بالعكس، هذا أمر محسوس. فهي إذا سقت الربا وجفت الوهاد، كانت بالربا مخصوصة وبالعكس.

وما أحسن قول أبي العلاء المعري:

ولو أن السحاب همى بعـقـل  لما أروى مع النخل القـتـادا

ولو أعطى على قدر المعالـي  سقى الهضبات واجتنب الوهادا

وكذا دعواه في أن البروق في السحب قبل الرعود أمر غير لازم، فإن البروق قد ترى بعد الرعود وإن كانت في الغالب تكون قبل.

ولا بأس بإيراد شيء من كلام القاضي الفاضل رحمه الله تعالى هنا في ذكر المنجنيق. فمن ذلك: وكتب الخادم والمنجنيقات قد سكنت سبابتها المسلمة، وكان عدم التسليم لموادعة البلد المستسلمة.

ومنه: والحصار مستمر على صفد وقد نصب عليها من المنجنيقات غلاظا شدادا جامعة لأوصاف الزبانية، ونحن في الليل والنهار لا نسمع إلا الواحدة والثانية، والله ينجح الثالثة في عبدة الثلاثة، والبلدة عقدة وسعادة السلطان نفاثات في العقد، ما أصغى إلى الآن للمنجنيق عطفها، ولا رغم من البروج أنفها.

ومن ذلك: فما خطفوا الخطفة حتى اتبعهم شهاب ثاقب، ولا قذفوا أنفسهم في الخندق حتى قذفتهم السيوف من كل جانب، ولا أقدموا على سماء المنجنيقات لأنها قد زينت من المقاتلة بزينة الكواكب.

ومن ذلك: بعد نصب منجنيقات ترمي بأحجار متناوبة النوائب، وإذا اتبعتها الحبال مودعة خيلت أنها كواكب ذوات نوائب، وبعد أن حذرهم خطاب الخطوب من اللجاج، وبعد أن هزت النقوب أعطاف الجدران وتساقط ثمر الأبراج.

ومن ذلك: وأنا نازل على عين يصم السمع هديرها، فوق جبال يقمر العين صبيرها، تحت سماء قد رابني منها الغداة سفورها، أمامي قتال يدير كأس المنون فيها مديرها، وورائي حجار المنجنيقات التي إذا رأت نقطها حروف البروج محيت سطورها.

ومن ذلك: وجثا المنجنيق يحاكمها، ولسان حبله يخاصمها، والخادم تحت المنجنيق الإسلامي يعرض الوجه لمنجنيق الفرنج، وينقل قطع الستائر نقل قطع الشطرنج، حيث التراس بياذق والجفاتي رخاخ، وحيث القلاع صيد والحجارة حب والمنجنيقات فخاخ.

ومن ذلك: وضايقوا عكا بأبراج خشبية ضربت مع الأبراج الحجرية المصاف، وتقدموا بمنجنيقات محاربة لله ورسوله فقطعت أيديها وأرجلها من خلاف.

ومن ذلك: وفي الثغرب مجانيق لا يعطل راتبها، ولا يرصد ضاربها، أكبرها ما قتل المقاتل شدخا، وأيسرها ما جعل بيذق الهام رخا.

ومن ذلك: وقد كنا نزلنا على هذه المدينة فأردنا توقير ثغرها، وتوفيرها عن نقبها وثغرها، فلم كان ثاني يوم الأضحى وقد بلغ منا الصبر إلى غاية من لا لوم عليه في التقرب بنحرها، وقضى بأن يتل تلها للجبين، وأن لا يأخذها بالأمان بل يأخذها باليمين، فأضجعتها المجانيق وذبحتها النقوب، وجرت منها دماء في الحال أوجبت من أبرجتها الجنوب.

ومن إنشاء شيخنا القاضي شهاب الدين محمود رحمه الله من قصيدة نظمها في فتح المرقب:

وأمطرتها المجانيق الـتـي نـشـأت  ولم يكن قبلها يهمي بـه الـمـطـر

وكان للكسر منها كلمـا صـنـعـوا  من جنسها ولأيدي الهدم ما عمـروا

كأنها ومجانـيق الـفـرنـج لـهـا  فرائس الأسد إذ أظفارها الـظـفـر

وكم شكى الحصن ما يلقى فما اكترثت  يا قلبهـا أحـديدٌ أنـت أم حـجـر

ومن كتاب كتبه القاضي تاج الدين أحمد بن الأثير في هذا الفتح أيضاً :   

والمنجنيقات تفوق إليهم سهام قسيها، ويخيل إليهم ساعية إليهم بحبالها وعصيها، وهي في الحصون من ألد الخصوم، وإذا أمت حصنا حكم بأنه ليس بإمام معصوم، ومتى امترى خلق في آلات الفتوح لم يكن فيها أحد من الممترين، وإذا نزلت بساحة قوم فساء صباح المنذرين، تدعى إلى الوغى فتكلم، وما أقيمت صلاة حرب عند حصن إلا كان ذلك الحصن ممن يسجد ويسلم.

قال ابن الساعاتي:

ومتى يحاول بلـدةً لـم يثـنـه  حشد الجيوش بها ولا بعد المدى

هتمت مجانقه ثنـايا سـورهـا  فرأيت ذاك الثغر ثغـرا أدردا

 

نماذج من إنشاء ابن الأثير يدعي فيها التقدم

قال: ومن ذلك ما وصفت فيه نزول العدو على حصار بلد من بلاد المكتوب عنه وكان ذلك في زمن الشتاء، فسقط على العدو ثلج كثير صار به محصورا. فقلت: وقد عاجلته قتال البروق قبل البيارق، وأحاط به الثلج فصار خنادق تحول بينه وبين الخنادق.

والشتاء قد لقي عسكره من البرد بعسكره، والسماء قد قابلته بأغبر وجهها لا بأخضره، والأرض كأنها قرصة النفي وعسى أن تكون أرض محشره ثم أخذ في ذكر اختراع المعنى من الحديث النبوي وهو إنكم تحشرون على أرض بيضاء كفرصة النقي يريد: الخبزة البيضاء. ودندن لذلك وطنطن.

أقول: العجب منه كونه يدون هذه الأشياء ويجمعها ويوردها، ويخطب عقيب كل واحدة منها خطبة لنفسه، يدعي فيها أن البلاغة في غيره مجاز وفي كلامه حقيقة، وأنه جاء بعقود الدرر وجاء غيره بجزعة ولا يرضى أن يقول بعقيقة. وقد أوردت كتابا للقاضي الفاضل فيما تقدم أصدره من بعرين، ذكر فيه الأمطار والثلوج والخيام وأتي فيه بمحاسن ما لابن الأثير بها يدان، ولا يدور على قطبها لكاتب فرقدان.

ومن كلام القاضي الفاضل: فأما الثلوج التي وصلها ذلك البيان فأججها، بل أهداها إلى الصدور التي هي بيوت نار الشوق فأثلجها. فقد تمثلت البلاد وكأنما نشر المولى عليها عرضه، وسرني أن سر ذلك الفضاء فضه، وأراني النجوم في هذه السنة وقد ناصحت في خصبها فنزلت بأنفسها، وبرزت ظاهرة في النهار بجواريها وخنسها، وأجدر بها أن تكون سنةً تغسل وضر الكفر بصابون ثلجها، وتبشر العزمة الناصرية من هذه الرغوة بما تحتها من صريح فلجها.

ومن ذلك: وإن يكشف الله قناع الشك، تكن أحق منزلة بالترك، فلن ترى إلا محشر الحشرات بل محسر الحسرات، يومها بالهم والثلج أبلق، والمنفق فيها يقلب كفيه على ما أنفق.

ومن رسالة كتبها القاضي محيي الدين بن قرناص إلى القاضي تاج الدين ابن الأثير: وعندما سطرها متهجما ، كان وجه الأفق بالغيم متجهما ، وثغر حماة بالثلج متبسما ، وقد ظهر عليها السكون، حيث شابت منها القرون، وكان المملوك مشرفا على مكان أحيط بثمر، والدوح يقلب كفيه على ما أنفق من عمره، وقد تزهد فتجرد من حرير أوراقه ولبس قطن زهره، فلا ترى إلا أشجارا قائمة على أصولها وكروما خاوية العروش، وسقيط ثلج كالفراش المبثوث وجبال غيوم كالعهن المنفوش.

ومن جواب القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر عن هذه الرسالة: وكان توجهنا إذ ذاك حين اكتست الجبال بالثلوج، وأحاطت بنا الأنواء من كل جانب إحاطة ما لها من فروج، بفصل فتحت فيه السماء أبوابها بما ليس لجمله عن تلك المواطن فصول، ولا لخضاب الجليد الدابغ أديم الثرى المتجلد من نصول. فعدنا إلى جهة حمص وإن لم يعجبنا العام، وقلنا كل ذلك مغتفر في جنب ما أشارته مصلحة الإسلام، الشاملة منهم للخاص والعام، واستقبلنا تلك النواحي المتناوحة، والمنازل المتنائية على المراحل المتنازحة، برقة جلود تتجالد على الجليد، وأوجه تواجه من تلك الظهور ما ورود حياض المنون به إليها أقرب من حبل الوريد، كم التفت الشمس بقارا من قرها بفروة سنجاب من الغمام، وكم غمضت عينها عمن لم تطعم جفونه بتهويم ولا تطمع بمنام، وكم سبك الزمهرير فضة ثلوجها فصحت عند السبك، وكم خبر من امرىء القيس أنشد عند النبك قفا نبك. هذا والزميتا قد مدت على البلاد والعباد ملاءتها الرحيضة، وأضحت بها الأنفس قتيلة لا مريضة، كأنها وخط المشيب على المفارق، أو رمل أبيض قد ذر على سطور تلك المهارق.

وللقاضي محيي الدين بن عبد الظاهر رحمه الله تعالى في القطيفة عدة مفاطيع يصف بردها. منها قوله:

هذي القطيّفة الّتـي  لا تشتهى عقلا ونقلا

خشيت بـبـردٍ يابـسٍ  فلأجل ذاك الحشو تقلى

وقوله أيضاً :

على ذم القطيّفة اجتمعـنـا  وإن حشيت ببردٍ قد تكـرر

وقد أضحى عليها للزميتـا  بياضٌ مثلما قد ذرّ سكّـر

ولم يكن المكفّن غير شخصٍ  يكون إلى نواحيها مسـيّر

وأبيات شهاب الدين الشاغوري مشهورة في الثلج. وهي:

قد أخمد الجمر في كانون حين قدح  وأجمد الخمر في كانون كل قـدح

يا جبة الزبداني أنـت مـسـفـرةٌ  عن حسن وجهٍ إذا وجه الزمان كلح

فالثلج قطنٌ عليك السحب تـنـدفـه  والجو يحلجه والقوس قوس قـزح

ومن هذا قول أبي الفضل الكاتب:

وأطربنا غيمٌ يمازح شمـسـه  فتستر طورا بالسحاب وتكسف

ترى قزحا في الجو يفتح قوسه  مكبا على قطنٍ من الثلج يندف

قيل إن الثلج وقع مرة في بغداد، فقال بعض شعراء ذلك العصر:

يا صدور العراق لم نر ثلجا  قبلها حلّ في نواحي العراق

إنما عمّ ظلمكم سائر الـنـا  س فشابـت ذوائب الآفـاق

ومما اتفق لي في ذلك:

تبا لها من بلـدةٍ لا أرى  فيها مقامي واضح النهج

لأنّها في وجه سكانـهـا  وأهلها تبصق بالثـلـج

 

الحسن في أبيات ابن بقي

قال وقد أورد في محاسن المعاني قول القائل:

بأبي غزالٌ غازلته مقلـتـي  بين العذيب وبين شطّي بارقٍ

... الأبيات.

وهذا من الحسن والملاحة بالمكان الأقصى، ولقد خفت معانيه على القلوب حتى كادت ترقص رقصا ، والبيت الأخير هو الموصوف بالإبداع، وبه وبأمثاله أقرت الأبصار بفضل الأسماع....

أقول: هذه الأبيات لابن بقي، وأوردها ابن الأبار في تحفة القادم ثم قال: وقد نسب بعض أهل عصرنا ابن بقي إلى الجفاء في قوله: أبعدته عن مهجة تشتاقه... ولو قال: أبعدت عنه أضالعا تشتاقه، لكان أحسن.

ثم أورد بعد ذلك لأبي الحكم جعفر بن يحيى بن عتال الداني:

حبّك لذّ بكل مـعـنـى  إلى كرى ملت أو سهاد

إن كان لا بد من رقـادٍ  فأضلعي هاك عن وساد

ونم على خفقهـا هـدوّا  كالطفل في نهنه المهاد

ولما وقفت أنا على ما ذكره ابن الأبار من الإيراد على ابن بقي، وأبيات ابن العتال خطر لي أن يكون ذلك نظما. فنظمت ذلك على روي ابن بقي ووزنه:

أبعدته من بعـد مـا زحـزحـتـه  ما أنت عند ذوي الغرام بعـاشـق

هذا يدل الناس منك على الـجـفـا  إذ ليس هذا فعـل صـبٍ وامـق

إن شئت قل أبعدت عنه أضالـعـي  ليكون فعل المستهـام الـصـادق

أو قل فبات على اضطراب جوانحي  كالطفل مضطجعا بمهـد خـافـق

فانظر إلى ما استحسنه ومدحه وفضله كيف أورد الناس عليه وعابوه، ولعمري إنه نقد حسن ومأخذ دقيق وإيراد متوجه.

وأما خفق الفؤاد واضطرابه من المحب، فللمتأخرين فيه مقاصد لطيفة المغزى. من ذلك قول الحظيري الوراق:

يقول لي حين وافى  قد نلت ما ترتجيه

فما لقلبك قـد جـا  ء خفقه يعـتـريه

فقلت وصلك عرسٌ  والقلب يرقص فيه

وقول....

لا تنكروا خفقان قلبٍ  جاء الحبيب إليه زائر

ما تـلــك إلا داره  دقت له فيها بشـائر

وقول ابن سناء الملك:

أما والله لولا خوف سخـطـك  لهان عليّ ما ألقى برهطـك

ملكت الخافقين فتهت عجـبـا  وليس هما سوى قلبي وقرطك

وقول أبي الوليد بن الجنان الشاطبي:

وأبيك لم يخفق جنانـي إنـمـا  طربا بأيام العقـيق يصـفّـق

لا يدّعي فيه الفؤاد خـفـوقـه  فوشاح من أهوى لعمري أخفق

وقول الآخر:

ملك القرط والـفـؤاد فـحـقـا  إن تسمّى بمالـك الـخـافـقـين

واحد الحسن في الورى ثاني الغص  ن إذا ماس ثـالـث الـقـمـرين

وقول البدر يوسف بن لولو الذهبي:

وأحوى فاتر الأجفان ألمى  رشيقٍ قده رخص البنان

تملّك قرطه والقلب مني  فصار له بذاك الخافقان

وقول ابن سناء الملك من مرثية:

أوسعت فيك الدهر عتبا مؤلما  فأجابني بالبهت والبهـتـان

قلبي يحاسبه على إجـرامـه  ويعدها بأنامل الخـفـقـان

وما أحسن قول القاضي الفاضل أيضا:

وقد خفقت راياته فكأنـهـا  أنامل في عمر العدو تحاسبه

وقول معين الدين بن تولوا:

لم أنسه إذ قال أين تحـلّـنـي  حذرا عليّ من الخيال الطارق

فأجبته: قلبي فقال تعـجـبـا:  أرأيت عمرك ساكنا في خافق

وهو مأخوذ من قول:

وسكنت قلبا خـافـقـا  يا ساكنا في غير ساكن

وما أحسن قول السراج الوراق:

يا ساكنا قلبي ذكرتك قبلـه  أرأيت قبلي من بدا بالساكن

وجعلته وقفا عليك وقد غدا  متحركا بخلاف قلب الآمن

وقول شمس الدين محمد بن التلمساني:

يا ساكنا قلبي المعنّـى  وليس فيه سواه ثـان

لأي معنى كسرت قلبي  وما التقى فيه ساكنان

هذا المعنى، رأيت جماعة من أهل العصر قد لهجوا به واستحسنوه، وهو فاسد، وذلك أن القلب وعاء للساكنين، والظرف غير المظروف، والقاعدة ان الساكنين إذا التقيا كسر الثاني منهما، وإذا كسر قلبه فليس بعجيب لأنه غير الساكنين وليس واحدا منهما، فما لإنكاره عليه معنى، فتأمل ذلك يظهر فساده.

ومن معنى قول معين الدين بن تولوا قول ابن سناء الملك، ولكنه سلك به مسكا آخر حيث قال:

من كل محتكم الأجفان يخـرجـنـا  من أرض سلوتنا في الحب ساحره

يأوي إلى خافق القلب الشجـيّ بـه  فاعجب لمن وكره في الحب طائره

وقوله:

يا طائر الحسن الذي وكره  قد حلّ من قلبي في طائر

وقوله أيضا:

وطائر حسنٍ طار قلبي بحسنه  فيا عجبا من طائرٍ وكر طائر

ومن هذا قول ابن قلاقس وقد وصف المركب:

ونحن في منزلٍ يسري بساكنه  فاسمع حديث مقيمٍ بيته غـاد

ومما قلته في خفقان القلب:

لما رقدت أتى خـيالـك بـغـتةً  فغدا فؤادي خافـقـا يتـمـوّج

لو أنّ صحبي شاهدوني في الكرى  والقلب يرقص في الخيال تفرجوا

ومن قولي أيضا:

حسبي الذي ألقاه فيك من الجـفـا  وعلى الصحيح فبعض ذاك كفاني

فانظر إلى قلبي إذا قـابـلـتـه  يا غصن كيف يطير بالخفـقـان

 

أحسن ما قيل في الخمر وكأسها

قال: وكذلك جاء قول بعض المغاربة في الخمر وكأسها، وهو:

ثقلت زجاجاتٌ أتتنـا فـرّغـا  حتى إذا ملئت بصرف الراح

خفّت فكادت أن تطير بما حوت  وكذا الجسوم تخفّ بـالأرواح

وهذا معنى مبتدع، أشهد أنه يفعل بالعقول فعل الخمر سكرا، ويرق كما رقت لطفا ويفوح كما فاحت نشرا.

أقول: هما لأبي علي إدريس اليماني، وأصل المعنى لابن المعتز حيث قال:

وزنّا الكأس فارغةً وملأى  فكان الوزن بينهما سواء

ولكنه زاده مبالغة، وهي أن الكؤوس استفادت بالخمر خفة، ثم إنه أراد لذلك مثالا في الخارج فلم يجده إلا في الروح والجسم.

ومثل هذا قول الخوارزمي:

رأيتك إن أيسرت خيمت عندنـا  لزاما وإن أعسرت زرت لماما

فما أنت إلا البدر إن قلّ ضوءه  أغبّ وإن زاد الضياء أقـامـا

أخذ المعنى في الأصل من قول إبراهيم بن العباس الصولي في ابن الزيات:

يعرف الأبعد إن أثرى ولا  يعرف الأدنى إذا ما افتقرا

ولما أراد أن يضرب لذلك مثالاُ في الخارج، لم يجده إلا في القمر وضوئه. وهكذا حال إدريس اليماني مع ابن المعتز.

ولابن حميدس هذا المعنى بعينه، فإنه قال:

وكاس نشوان فيها الشمس بـازغةٌ  باتت تديم إلى الإصباح لثم فـمـه

تخفّ ملأى وتعطي الثقل فـارغةً  كالجسم عند وجود الروح أو عدمه

وقال أيضاً :

جسامٌ تجمّع شربه لذاتـنـا  وعقولنا بالسكر منه تـبـدّد

ويخف ملآنا ويثقل فارغـا  كالجسم يعدم روحه أو يوجد

على أن ابن حمديس أتى بالمعنى كاملا في بيت واحد، وإدريس اليماني إنما أتى به في بيتين. ولكن نظم إدريس أعلق بالقلب، وأوقع في النفس، وأعذب في السمع.

وقريب من هذا المعنى قول أبي العلاء المعري في اللزوميات:

لم يكن الدنّ غير نكرٍ  سلافة الراح عرّفته

كآدمٍ صيغ من ترابٍ  ونفخة الروح شرفته

وكلاهما تسلق على هذا المعنى، ونقله إلى الثقل والخفة، وإلا فهو هو.

وعلى ذكر الخفة في الخمر والطيران، فما أحلى قول أبي الحسين الفكيك:

بكرٌ خطابٌ إذا ما الماء خالطهـا  أبدت لنا زبدا في سورة الغضب

كادت تطير نفارا حين واقعـهـا  لولا شبابيك ما صاغت من الحبب

 

نماذج من إنشاء ابن الأثير يدعي فيها السمو

قال: وقد جاءني في الكلام المنثور شيء من هذا الضرب، وسأذكر ههنا منه نبذة. فمن ذلك ما ذكرته في وصف صورة مليحة فقلت: ألبس من الحسن أنضر لباس، وخلق من طينة غير طينة الناس، وكما زاد حسنا فكذلك زاد طيبا ، واتفقت فيه الأهواء حتى صار إلى كل قلب حبيبا ، فلو صافح الورد لتعطرت أوراقه، ولو مر على اللينوفر ليلا لتفتحت أحداقه.

أقول: أي غريب في هذه المعاني، وأي إبداع حتى يثبته ويتعجب له ويروقه.

أما الأول فمأخوذ من قول:

ربيب ملكٍ كأنّ الـلـه صـوّره  مسكا ، وقدّر إنشاء الورى طينا

ولا يخفى أن هذا أمدح وأحسن.

وأما الثاني، فمأخوذ من قول البحتري:

أفرغت في الزجاج من كل قلبٍ  فهي محبوبةٌ إلى كل نـفـس

وقول ابن لنكك:

عصرت من دم القلوب فما تب  صر إلا تعلقت بالـقـلـوب

وأما قوله فلو صافح الورد لتعطرت أوراقه، فأي مزية لهذا الموصوف بهذه الصفة والورد ما زال عطرا ، سواء صافحه زنجي أو غيره، وهذا من باب تحصيل الحاصل. ولو قال: فلو صافح الأثل تضوع منه نشر البان، ولو مر على اللينوفر في الليل لأيقظ طرفه الوسنان لكان أحسن. فإن الورد لو صافحه أبو الأسود الدؤلي أبو عبد الملك بن مروان، لكان طيب العرف، والمدح إنما يكون بأن الإنسان يكسب الطيب ما ليس له طيب ويفيد الحسن ما لم يكن معروفا بحسن.

ألا ترى أنهم عابوا على كثير عزة قوله:

وما روضةٌ بالحزن طيبة الثـرى  يمجّ النّدى جثجاثها وعـرارهـا

بأطيب من أردان عزة موهـنـا  وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها

وقيل له: لو كانت هذه أمة زنجية ووقود نارها مندل رطب، لطاب ريحها وتعطر ردنها. وهلا قلت كما قال امرؤ القيس.

ألم تر أني كلما جئت طارقـا  وجدت لها طيبا وإن لم تطيّب

ولهذا استحسنوا قول القائل: وريحها أطيب من طيبهـا  والطيب فيه المسك والعنبر 

فانظر إلى هذا الشاعر لما أثبت أنها تتطيب جعل ريحها أطيب منه.

وبالغ بشار بن برد في قوله:

وإذا أدنيت منـهـا بـصـلا  غلب الطيب على ريح البصل

لكن هجن هذا المعنى بذكر البصل.

ويحكى أن بعض الشيعة أنشد أبا مجالد قول السيد الحميري:

أقـسـم بـالـلـه وآياتـه  والمرء عمّا قال مسـؤول

أنّ عليّ بن أبي طـالـبٍ  على الهدى والبر مجبول

ذاك الذي سلّم فـي لـيلةٍ  عليه ميكـالٌ وجـبـريل

ميكال في ألفٍ وجبريل في  ألفٍ ويتلوهم سـرافـيل

في يوم بدرٍ بددا كـلـهـم  كأنـهـم طـيرٌ أبـابـيل

فقال له أبو مجالد: يا هذا إن الشاعر لم يمدح صاحبك، وإنما هجاه في موضعين أحدهما أنه زعم أن عليا كرم الله وجهه مجبول على البر والهدى، ومن جبل على أمر لم يمدح عليه، لأنه لم يكسبه بسعيه.

وثانيهما أنه ادعى أن أيد في حروبه بالملائكة، ولا فضيله له حينئذ في الظفر، لأن أبا حية النميري لو أيد بهؤلاء لقهر الأعداء.

ذكر ذلك أبو عمر الزاهد في كتاب الياقوته فثبت بمثل هذا أن لا مدح في قوله: لو صافح الورد لتعطرت أوراقه. ويؤيد هذا أنه تنبه لهذا في السجعة الثانية فقال: ولو مر على اللينوفر ليلا لتفتحت أحداقه فاحترز بالليل لأنه في النهار يكون مفتوح الأوراق.

ومن طريف ما جاء للشعراء في اللينوفر قول الخبز أرزي:   

خاف الملال إذا طالت إقامته  فصار يظهر أحيانا ويحتجب

كأنه حين يبدو من مطالعـه  صبٌ يقبّل حبّا وهو يرتقب

وذكرت هنا قول بعض المتأخرين في زر ورد.

سبقت إليك من الحدائق وردةٌ  وأتتك قبل أوانها تـطـفـيلا

طمعت بلثمك إذ رأتك فجمّعت  فمها إليك كطالبٍ تـقـبـيلا

وهذا من محاسن التضمين الذي نقل عن أصله، لأن المتنبي قال في الناقة من جملة قصيدته:

ويغيرني جذب الزمام لقلبها  فمها إليك كطالبٍ تقبـيلا

على أنه أخذه من ابن بابك، وإنما حسن ذلك التضمين. فإن ابن بابك قال:

وافى الشتاء فبز النور بهجـتـه  فعل المشيب بشعر الّلمّة الرّجل

وردٌ تفتح ثم ارتدّ مجـتـمـعـا  كما تجمّعت الأفواه للـقـبـل

وما أحسن قول مجير الدين محمد بن تميم في اللينوفر:

غدا اللينوفر المصفرّ يحـكـي  النّجوم فلا يغادرها شـبـيهـا

تغوص العين فيه إذا تجـلّـى  النّهار وفي الظلام يغوص فيها

وقد استخدم العين هنا في معنين: أولهما العين الباصرة، والثاني العين الجارية وقول ابن حمديس الصقلي:

اشرب على بركة لينوفـرٍ  مصفرة الأوراق خضراء

كأنما أزهارها أخرجـت  ألسنة النار من الـمـاء

وما ألطف قول التنوخي من جملة أبيات:

ألف المياه مشاكلا بلـطـافةٍ  حتى يفارق شكله لم يصبـر

فيقوم طورا ثم يرفـع رأسـه  بتخنّـثٍ وتـأودٍ وتـكـسّـر

وكأنه في الماء صاحب مذهبٍ  أغراه وسواسٌ بأن لم يطهـر

وقول الآخر:

كأن لـينـوفـرهـا عـاشـقٌ  نهاره يرقب وجه الـحـبـيب

حتى إذا الليل بـدا سـجـفـه  وانصرف المحبوب نحو الكئيب

غمّض عينيه عـسـى أن يرى  في النوم من فاز به عن قريب

وبالغ الآخر في الظرف حين قال:

وكأنه إذ غاب وقت مـسـائه  في الماء واحتجبت نضارة قده

صبٌّ يهدده الحبيب بهـجـره  ظلما فغرّق نفسه من وجـده

وقال الوجيه ابن الذروي يهجو اللينوفر المصري:

ولينوفرٍ أبدى لنا بـاطـنـا لـه  مع الظاهر المخضر جمرة عندم

فشبهته لما قـصـدت هـجـاءه  بكاسات حجّامٍ بهـا لـوثة الـدم

 

نموذج من إنشاء ابن الأثير في ذم الشيب يدعي فيه الإبداع

قال: ومن ذلك ما ذكرته في ذم الشيب فقلت: والشيب إعدام لا يسار، وظلم لا أنوان، وهو الموت الأول الذي يصلي نارا من الهم أشد وقودا من النار، ولئن قال قوم إنه جلالة فإنهم دقوا به وما جلوا، وأفتوا في وصفه بغير علم فضلوا وأضلوا، وما أراه إلا محراثا للعمر ولم تدخل آلة الحرث دار قوم إلا ذلوا. ون عجائب شأنه أنه المملول الذي يشفق من بعده، والخلق الذي يكره نزع بدره، ولما فقد الشباب كان عنه عوضا ولا عوض عنه في فقده.

أقول: إنه أخذ بعد فراغه من هذا الفصل في الدندنة على العادة، وأن المعنى الذي ابتدعه هو تشبيه الشيب بآلة الحرث، وقد شبه الناس الشيب بأشياء منها اشتعال النار، وقد نطق القرآن العظيم به في قوله تعالى "واشتعل الرأس شيبا".

وقال الأرجاني:

قد أشعل الشيب رأسي المبلا عجلا  والشمع عند اشتعال الرأس ينسبك

فإن يكن راعها من لـونـه يقـقٌ  فطالما راقها من لونـه حـلـك

ومنها تشبيه بالصبح، قال:

وقالوا انتبه من رقدة اللهو والصبا  فقد لاح صبحٌ في دجاك عجيب

فقلت:

أخلاّني دعوني ولـذّتـي  فإن الكرى عند الصباح يطـيب

ومنها تشبيهه بالنجوم، قال: ....

ومنها تشبيهه بالتبسم. قال أبو تمام:

رأت تبسّمه فاهتاج هائجهـا  وقال لاعجها للعبرة انسكبي

فلا يؤرّقك إيماض القتير بـه  فإنّ ذاك ابتسام الرأي والأدب 

ومنها تشبيهه بالحبب. قال....

ومنها تشبيهه بالغبار قال ابن المعتز:

صدّت شرير وأزمعت هجري  وضعت ضمائرها إلى الغدر

قالت كبت وشبت قلت لـهـا  هذا غبار وقـائع الـدهـر

ومنها تشبيهه بالسيف، قال:

أنا إن نزعت عن الغواية والصبا  فلطالما استهـوتـنـي الآثـام

أصبو سيفٌ للمشـيب مـجـرّدٌ  وقلت نورٌ بدا على قـضـبـه

ومنها تشبيهه بالزهر. قال الغزي:

تألق الشيب فاعتذرت لـه  وقلت نورٌ بدا على قضبه

كأن ثغر الحبيب ركّب في  مفارقي ما أضاء من شنبه 

ومنها تشبيهه بالبوم والقطاة كقول الشافعي رضي الله عنه في أبياته التي منها:

أيا بومةً قد عششت فوق هامتـي  على الرغم مني حين طار غرابها 

وقال الغزي:

قطاةً في الهداية كان شيبي  وإن سمّته نقبته غـرابـا

وشبهه السراج الوارق بالقرطم، وإنما حسن ذلك لأنه رحمه الله تعالى كان أشقر. فقال.

ذهب العصفر مني  وبدا قرطم شيبـي

والتي قد ملكت رق  بي ردّتني بعيبـي

وقيل لأعرابي عن الشيب: ما هذا البياض الذي في رأسك ? فقال زبدة مخضتها الأيام وفضة سبكتها التجارب.

وما أحسن قول القاضي الفاضل رحمه الله .

إليك بعد انقضاء اللهو والـلـعـب  عني فلم أر بي ما يقتضي أربـي

والعمر كالكأس والأيام تـمـزجـه  والشيب فيه قذىً في موضع الحبب 

وشبه بأشياء مناسبة غير هذه، ولم أر لأحد تشبيهه بآلة الحرث، وأي مناسبة بين آلة الحرث والشيب وما وجه الشبه وليس هذا من باب تشبيه المحسوس بالمحسوس، ولا من باب المحسوس بالمعقول، وما أدري ما هو، وأما تشبيه الهرم بالحرث نفسه فجائز وأما قوله اعدام لا يسار، فمأخوذ من قول المتنبي:

وقد أراني الشباب الروح في بدني  وقد أراني المشيب الروح في بدلي 

وأما قوله ظلام لا أنوار، فمأخوذ من قول أبي تمام:

له منظرٌ في العين أبيض ناصعٌ  ولكنه في القلب أسود أسفـع

وقول أبي الطيب:

ابعدت بياضـا لا بـياض لـه  لأنت أسود في عيني من الظلم 

وما أحسن قول الغزي:

كيف لا ينفر الظباء من الشي  ب ومن عادة الظباء النفـور

أبيضٌ مظلـمٌ وكـل بـياضٍ  في سوى العين والمفارق نور 

وأما قوله: وهو الموت الأول.. السجعة، قال محمود الوراق: الشيب إحدى الميتتين. وقال غيره: الشيب غمام قطر الغموم.

وأما قوله: ولئن قال قوم إنه جلالة.. السجعة، فذكرت به قول بعض المتأخرين:

وقالوا شباب المرء لهوٌ وغـرّةٌ  ومن خلفه شيب الوقار ولا ريب 

وأي وقارٍ لامرىءٍ عرّي الصبـا  وقدّامه شيبٌ ومن خلفه شـيب

وأما قوله: وهو المملول الذي يشفق من بعده، فمأخوذ من قول مسلم ابن الوليد وقول مسلم في غاية الحسن:

الشيب كرهٌ وكره أن يفـارقـنـي  اعجب بشيءٍ على البغضاء مودود 

يمضي الشباب فيأتي بعـده بـدلٌ  والشيب يذهب مفقودا بمفـقـود

قيل: إن المنذر بن أبي سبرة نظر إلى أبي الأسود الدؤلي وعليه قميص مرقوع فقال له: ما أصبرك على هذا القميص ? فقال: رب مملول لا يستطاع فراقه. فبعث إليه تختا من ثياب.

ونظر سليمان بن وهب في المرآة فرأى الشيب فقال: عيب لا عدمناه وقد جاء في ترسل الفاضل ذكر الشيب فقال: فمن يطلع شرف السبعين يهبط إلى الحضيض، ومن يعمر العمر الطويل يقع في الطويل العريض وأيام المشيب كلها بيض، وما نحن ممن يصوم الأيام البيض.

وما ألطف قول ابن المعتز:

أيا نفس قد أثقلتنـي بـذنـوبـي  أيا نفس كفي عن هواك وتوبـي

وكيف التصابي بعد أن ذهب الصبا  وقد ملّ مقراضي عتاب مشيبـي

وما أحلى قول:

ألا يا ساريا في بطن قـفـرٍ  ليقطع في الفلا وعرا وسهلا 

قطعت نقا المشيب وبنت عنه  وما بعد النقا إلا المصـلّـى

ولبعض الشعراء:

ولما رأيت الشيب راءً بعارضي  تيقنت أنّ الوصل لي منك واصل 

ربما يفهم من هذا البيت غير ما قصده الناظم، فيتوهم أنه يظن أن الشيب سبب لوصاله وهو على خلاف المعهود من كلام الشعراء، فإنهم ما زالوا يقولون إن الشيب سبب نفار الغواني عن المحبين.

وما أحسن قول خالد الكاتب في هذا:   

لما رأت شيبا ألمّ بمفـرقـي  صدّت صدود مفارقٍ متجمّل

وجعلت أطلب وصلها بتذلـلٍ  والشيب يغمزها بأن لا تفعلي 

والشاعر إنما أراد هذا المعنى المعهود، فإن واصل بن عطاء الغزال رأس المعتزلة، كان يلثغ في الراء لثغة قبيحة، وكان يتجنب الراء في كلامه، ولا تكاد تسمع منه كلمة فيها راء ويقال إنه امتحن ليقرأ أول سورة براءة فقرأ من غير فكر ولا روية: عهد من الله ونبيه إلى الذين عاهدتم من الفاسقين، فسيحوا في البسيطة هلالين هلالين.

وبلغه أن بشار بن برد هجاه، فقال غير مفكر: أما آن لهذا الأعمى الملحد المكنى بأبي معاذ من يقتله. أما والله لولا أن الغيلة خلق من أخلاق الغالية، لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضطجعه ثم لا يكون إلا سدوسيا أو عقيليا .

فقال الأعمى ولم يقل الضرير، وقال الملحد ولم يقل الكافر، وقال أبو معاذ ولم يقل بشار بن برد ولا المرعي، وقال الغيلة ولم يقل الغدر، وقال الغالية ولم يقل المغيرية ولا المنصورية، وقال بعثث ولم يقل سيرت، وقال يبعج ولم يقل يبقر، وقال مضطجعه ولم يقل فراشه، وأراد بذكر عقيل وسدوس ما كان بشار بن برد يذكره من الاعتزاز إليهما.

وقال فيه بعض الشعراء يمدحه:

ويجعل البرّ قمحا في تصرفـه  وخالف الراء حتى احتال للشعر 

ولم يطق مطرا والقول يعجلـه  فجاء بالغيث إشفاقا من المطر

فلهذا قال الشاعر ذلك البيت. وشبه الوصل بواصل، وشبه الشيب بالراء. مراده أنه يجفوه جفاء واصل الراء.

وقال آخر فأحسن:

أعد لثغةً لو أن واصل حاضرٌ  ليسمعها ما أسقط الراء واصل 

وقال الرمادي في مليح ألثغ.

لا الراء تطمع في الوصال ولا أنا  الهجر يجمعنا فنـحـن سـواء

فإذا خلوت كتبتها في راحـتـي  وقعدت منتحـبـا أنـا والـراء

وقال الأرجاني:

هجر الراء واصل بن عـطـاءٍ  في خطاب الوري من الخطباء

وأنا سوف أهجر القاف والـرا  ء مع الضاد من حروف الهجاء 

 

مناقشة نموذج من إنشاء ابن الأثير

قال: وكذلك كتبت إلى بعض الأصحاب كتابا من هذا الجنس، أهزل معه فقلت: ينبغي له أن يشكرني على وسمه بهجائي دون امتداحي، فإني لم أسمه إلا لتحرم به الأضحية في يوم الأضاحي، ولا شك أن سيدنا معدود في جملة الأنعام، غير أنه من ذوات القرون والقرون عدة في الخصام.

أقول: أي معنى هذا حتى يتبجح به وقول: وهذا معنى ابتدعته ولم أسمعه لأحد قبلي.

ولو أنه اقتصر على السجعتين الأوليين لكان ذلك أحسن من أن يفسر معناهما فيما بعد ولقد أذهب رونق التنديب والتندير، بما أتى به من التفسير. وقد قيل إن من شرط التنديب أن لا يكون خفيا ولا صريحا ولكن بين بين.

ألا ترى إلى قول السراج الوراق فيمن ينعت بالصفي:

حالت حوادث بيني  بين الصفيّ وبيني

فلا أموت إلـى أن  أرى الصفيّ بعيني 

ما أحلاه. ولو قال: فلا أموت إلى أن اراه صفيا أو بعين واحدة، يعني أعور ما كان له هذه الطلاوة، ولا فيه هذا الحسن الواقع من القلب. أو لو أخذ يفسره فيما بعد ويشرح ما رمزه، ذهبت منه هذه الحلاوة.

وانظر ما أحسن قول الجزار أبي الحسين رحمه الله تعالى:

لو يقنص الجزار أرواح العدى  في يوم عيدك كنت أول قانص 

لكنهم أمنوا مداي لنقـصـهـم  إنّ الضحية لا تكون بناقـص

وقوله أيضاً :

نصحتك فاسمع من نصيحة عاشقٍ  وإني على ما قـلـتـه لأمـين

من الرأي أن لا توقع الحرب بيننا  فإني جـزارٌ وأنـت سـمـين

ولو قال: ينبغي له أن يشكرني على وسمه بهجائي بين البرية، فإني لم اسمه إلا لكي تحرم به الأضحية، لكان أحسن. فإن قوله: الأضحية في يوم الأضاحي من باب قولك: العيد في يوم العيد، والصيام في يوم الصيام. ومن المعلوم أن الضحايا لا تطلق إلا على ما ذبح أيام التشريق، وما ذبح في غير ذلك من الذبائح لا يطلق عليه ذلك. وكذلك صلاة الجمعة لا تطلق إلا على الصلاة المعروفة في الوقت المخصوص، ومتى كانت صلاة في غير ذلك الوقت فلا تكون جمعة.

 

نموذج من إنشاء ابن الأثير يدعي فيه الإبداع

قال في فصل ذكر فيه هدية رطب لبعض ملوك الشام: ولما استقلت به الطريق أنشا الحسد لغيره من الفواكه أربا، وما منها إلا من قال يا ليتني كنت رطبا.

أقول أي فصاحة لهذه العبارة، وأي بلاغة على هذا المعنى الذي لا طائل تحته وأين هذا من قول أبي الحسين الجزار:

قلت لما سكـب الـسـا  قي على الأرض الشرابا

غيرةً مـنـي عـلــيه  ليتني كـنـت تـرابـا

فإن هذا أتى بلفظ القرآن العظيم، فكان له في السمع وقع وفي القلب حلاوة، ولو كان قوله ليتني كنت رطبا بعض آية أو بعض بيت أو بعض مثل أو معنى متداولا في شيء، فنقله إلى هذا، لكان حسنا .

ومن كلام القاضي الفاضل رحمه الله تعالى في جواب الخليفة: ورد الكتاب المشتمل على ما أبان عنوان النية وإن كان كتابا ، وأقر النعمة وإن علا وكان سحابا ، المقتضي حد الطاعة ولتلك القدم الشريفة يقول المؤمن ليتني كنت ترابا.

ثم إن ابن الأثير قال: وما منها إلا من قال. فأجرى من على ما لا يعقل. وهي لا تكون إلا لمن يعقل. والفواكه لا تعقل.

ولو قال: وما منها نوع إلا قال، لخلص من ذلك. وقد يعتذر له بأنه لما نزل أنواع الفاكهة منزلة العاقلين في القول، أطلق من عليها. كقوله تعالى: فقال لها وللأرض، ائتيا طوعا أو كرها ، قالتا أتنا طائعين. وهذا الجمع الذي يعرب بالحروف لا يكون إلا للعاقلين. ولكنه لما نزلهما منزلة العاقلين في القول والطاعة، أعطاهما جمع العاقلين.

والجواب: ليس هذا من هذا، والفرق بين الآية الكريمة وبين كلامه، أنه في الآية الكريمة أطلق ذلك لما تقدم قولهما. فأشعر بأنهما تنزلا منزلة العاقلين.

وأما ابن الأثير فإنه أطلق من على ما لا يعقل من أول وهلة فلم يحسن. وبمثل هذا خلص المتنبي من إيراد ابن وكيع وغيره عليه، في قوله:

وكل ما قد خلق اللـ  ـهُ وما لم يخـلـق

محتقرٌ في همّتـي  كشعرةٍ في مفرقي 

قالوا: وفيما خلق الله تعالى، الأنبياء والرسل والملائكة. وهذا يقتضي تكفيره ويدل على زندقته.

والجواب على المتنبي أنه إنما قال وكل ما ولم يقل وكل من فإن ما لما لا يعقل على الصحيح وبهذا يخرج عنه الرسل ومن شرف قدرهم وارتفع مقامهم عن هذا، والملائكة صلوات الله عليهم وسلامه.

وكذا أورد بعض الجاهلين في قوله تعالى: "إنكم وما تعبدون من دون الله حصَب جهنّم".

فقال: وممن عبد المسيح، ولم يدر المثكل أن ما في قوله تعالى "وما تعبدون" لما لا يعقل. فيتناول الأصنام والكواكب وغير ذلك، ويخرج المسيح عليه السلام من ذلك.

 

مناقشة رسالة لابن الأثير من عاشق إلى معشوق

قال: ومن ذلك وقعة كلفني بعض أصدقائي إملاءها عليه، وهي رقة من عاشق إلى معشوق ثم أخذ ف سردها وهي طويلة افتتحها بقول القائل:

وإذا قيل من تحبّ تـخـطـا  ك لساني وأنت في القلب ذاكا

فلما رأيته قد صدر الرسالة ببيت أبي تمام قلت: لعل هذا البارق تكون وراءه سقيا، ويتمسك بهذه الطليعة في اللطف على عادة مخاطبة العشاق وخضوعهم وذل سؤالهم في طلب الوصال أو شكوى الهجر أو رقة العتاب في إخلاف الوعد أو الميل إلى الضد، فإنه إن كانت الرقة واللطافة والاستكانة خلقت لشيء، فما أرى أحدا أولى بها من العشاق في هذه المقامات وما أحلى قول القائل:

يدير من كفّه مـدامـا  ألذ من غفلة الرقـيب

كأنها إذ صفت وزفّـت  شكوى محبّ إلى حبيب 

فما كان إلا أن قال بعد ذلك البيت: يا من لا أسميه ولا أكنيه، وأذكر غيره وهو الذي أعنيه لا تكن ممن أوتي ملك الملاحة فلم ينظر إلى زواله، وعرف مكانه من القلوب فجار في إدلاله، ولا تغتر بقول من رأى الحسن للإساءة ماحيا ، واعلم أن اللاحي يقول: كفى بالتذلل لاحيا ، وكثيرا ما يزول العشق بجنايات الصدود، والزيادة في الحد نقص في المحدود. وقد قيل: إن الحسن عليه زكاة كزكاة المال، وليست زكاته عند علماء المحبة إلا عبارة عن الوصال، وهذه صدقة تقسم على أربابها، ولا ينتظر أن يحول الحول في إيجابها، فهي مستمرة على تجدد الأيام، والمستحقون لها قسم واحد ولا يقال إنهم ثمانية أقسام، وهؤلاء هم المخصوصون بفك الرقاب، ورقبة العشق أشد أسرا من رقبة تتحرر بالكتاب. فاخرج يا مولاي من هذا الحق الواجب، وإلا فتأت لطالب منىً وأي مطالب، ولا تقل هذا غريم أكثر عد الليالي في مطله، وأعده والمواعيد زاد لمثله، فهذه سلعة قد عاملتني بها مرة ساخرا ومرة ساحرا ، ومن الأقوال السائرة إن الغر تجعله التجربة ماهرا ، ولعمري إن ممارسة الحب تجدد لصاحبه علما ، وتبصرةً وإن كان كما يقال أعمى، وقد كذب القائل:

عرّصن للذي تحبّ بحب  ثم دعه يروضه إبليس

فإن كانت الرياضة كما قيل لإبليس فما أراه صنعا في الذي صنع، وأراك استعصيت عليه استعصاء القارح وأنت جذع، ولا شك أنك تهدم ما يشيده من البناء، وأنك مستثنى في جملة من دخل في حكم الاستثناء، وأنا الآن له عائب، وعليه عاتب. فأين نفاثاته التي هي أخدع من الحبائل، وأين قوله لآتينهم عن الأيمان والشمائل، وأين جنوده المسترقة ما في السماء، التي تجري منهم مجرى الدماء. وكل هذا قد بطل عندي خبره، كما بطل عندي أثره، فإن أدركته النخوة بأني استهزأت بتصديق أفعاله، فليحلل معقول حاجتي هذه حتى أعلم أنه قادر على حل عقاله، وإلا فليخف راسه، وليمح وسواسه، وإن كان له عرش على البحر فليقوض من عرشه، وليعلم أن السحر ليس في عقده ونفثه ولكنه في الأصفر ونقشه، وها أنذا قد بعثت بما يجعل العزم محلولا والود مبذولا ، وما أقول إلا أني بعثت معشوقا إلى معشوق، وكلاهما محله من القلب بل القلب من حبها مخلوق، وما أكرمه وهو وسيلة إلى مثله، وحسنه من حسنه وإن لم يكن شكله من شكله، وما وصفه واصف إلا كان ما رآه منه فوق ما رواه، ومن أغرب أوصفاه وأحسنها أنه لم ير ذو وجهين وجيها سواه، ولا جرم أنه إذا سفر في أمر تلطف في فتح أبوابه، وتناول وعره فبدله بسهمه وبعده فبدله باقترابه، ولو بعثت غيره لخفت أن لا يكون في سفارته صادقا ، وأنه كان يمضي سفيرا ويعود عاشقا ، فليس على الحسن أمانه، وفي مثله تعذر الخيانة، ولا لوم على العقول إذا نسيت هناك عزيمة رشدها، ورأت ما لا يحتمله كاهل جهدها، ومن ذا الذي يقوى درعه على تلك السهام، أو يروم النجاة منها وقد حيل بينه وبين المرام، وهذا الذي منعني إلا أن أرسل كيسا أو كتابا ، فأحدهما يكون في السفارة محسنا والآخر على السر حجابا ، والسلام إن شاء الله تعالى.

أقول: إنه لما فرغ من هذه الرسالة، أخذ على العادة في تفريط كلامه لما ابتدعه من ذكر الزكاة ووصف الدينار بمعنى الحديث، وأن الذي اتفق له لم يظفر به الحريري ولا سبق إليه وأقول: إنني ما سمعت ولا رأيت ولا أسمع ولا أرى بمن راسل محبوبه بمثل هذه الأشياء، وتهدد بأن العشق يزول بالصدود، والزيادة في الحد نقص في المحدود، وأن الوصال زكاة تجب عليك ولا تقل إنها في العام بل في كل وقت، فأخرج من هذا الحق الواجب عليك، ولا تقل إني غريم هين الطلب، فكم تسخر بي، فما أنا كما كنت والتجربة تجعل الغر ماهرا ، ولكن المحب أعمى ثم أخذ في ذم إبليس وتأنيبه وتوبيخه، وأنه ليس بصاحب الوسوسة والإغواء والسحر إنما هو للدينار، وها أنا قد جهزت شيئاً من ذلك، وما بقي بعد أن أجهز المعشوق إلى المعشوق شيء. ثم أخذ يصف الدينار.

نعم هذه العبارة والتهديد تصلح أن تكون في حق عدو خرج من الصداقة إلى العداوة أو متول أكثر الظلم والفساد في البلاد والعباد، ولم يفده الإنذار ولا التحذير، أو عبد خرج عن طاعة مولاه ولم يخف سلطانه.

وما أظن هذا المعشوق إلا أنه كان قد عزم على زيارة هذا العاشق، فعارضه في الطريق الرسول بهذا الكتاب والدينار، فلما وقف عليها ورأى هذا الإنعام والمانة به عليه، كر راجعا بعد إن سب الرسول ومزق ثيابه، ونتف ذقنه وبصق في وجهه ولعن من أرسله، ومزق الرقعة شذر ومذر، وداس فتات الرقعة برجليه وقال ما عنده من العجر والبجر، وتفضل في حق كاتب الرسالة بما يستحقه، ورمى بالدينار الذي أرسله في الهواء. على أنه يكون في ذلك مختصرا، وأنه سكت عن ظلمه ولم يكن منتصرا .

أما وقف هذا على شعر المتيمين من العرب الذين خاطبوا أحبابهم وتوسلوا في طلب الوصال، وتلطفوا في طلب الرضا والمساعدة على الهوى. أكذا قال قيس بن ذريح وعبد الله بن العجلان النهدي وعروة بن حزام وأبو ذؤيب وقيس المجنون وجميل بثينه وكثير عزة. أكذا تغزل عمر بن أبي ربيعة والحارث بن خالد والعباس بن الأحنف. أما سمع قول أبي الطيب:

زيدي أذىً مهجتي أزدك هوى  فاجهل الناس عاشقٌ حـاقـد

وقول أبي فراس:

أساء فزادته الإساءة حظـوةً  حبيبٌ على ما كان منه حبيب 

يعدّ عليّ الواشـيان ذنـوبـه  ومن أين للوجه الجميل ذنوب 

وقول الآخر.

لئن ساءني أن نلتني بمسـاءةٍ  لقد سرّني أني خطرت ببالك 

وقول الآخر:

ويدلّ هجركم على  أني خطرت ببالكم 

أما سمع قول المعري:

لغيري زكاةٌ من جمالٍ فإن تكن  زكاة جمالٍ فاذكري ابن سبيل

ما أحلى قول: فاذكري ابن سبيل إن أخرجت زكاة جمالك، لم يأمرها بصرفها إليه ولا أوجبها عليها بل قال: إن كان شيء، فاذكري ابن السبيل المستحق.

ومن هذا قول كثير عزة:

لئن كان يهدى برد أنيابها العلى  لأفقر مني إننـي لـفـقـير

على أن معناه مشكل إذا تأملته حتى التأمل، وليس هذا مكان الكلام عليه. وما ألطف ابن سناء الملك في قوله:

وغانيةٍ لم تعـد عـشـرين حـجةً  أقول لهـا قـولا لـديه صـواب

عليك زكاةٌ فاجعليها وصـالـنـا  فعمرك في العشرين وهي نصاب 

وقول ناصر الدين بن النقيب:

لقد وجبت عليك زكاة حسنٍ  وفيه كمثل ما في المال حق 

فلا تعدل به عنـي فـانـي  لمصرفه الفقير المستحـق

أما سمع بقول جميل بن معمر العذري.

لا خير في الحب وقفا لا تحركه  عوارض اليأس أو يعتاده الطمع 

لو كان صبرها أو عندها جزعي  لكنت أعرف ما آتي ومـا أدع

وقول أبي الطيب:

وأحلى الهوى ما شكّ في الوصل ربّه  وفي الهجر، فهو الدهر يخشى ويتّقي 

وقول كشاجم:

لولا اطراد الصيد لم تك لـذةٌ  فتطاردي لي بالوصال قلـيلا

هذا الشراب أخو الحياة وما له  من لذةٍ حتى يصيب غـلـيلا

وقول العباس بن الأحنف:

وأحسن أيام الـهـوى يومـك الـذي  تروّع بالهجران فيه وبـالـعـتـب

إذا لم يكن في الحب سخطٌ ولا رضىً  فأين حلاوات الرسائل والـكـتـب

وقول علية بنت المهدي:

وضع الحب على الجور فلو  أنصف المعشوق فيه لسمـج

ليس يستحسن في شرع الهوى  عاشق يحسن تأليف الحجـج

أما سمع بقول محمد بن بشير الخارجي:

ولقد أردت الصبر عنك فعاقني  علقٌ بقلبي من هـواك قـديم

يبقى على ريب الزمان وصرفه  وعلى جفـائك إنـه لـكـريم

وما أحسن قول العباس بن الأحنف حين عنف أحبابه على المطل بالوصل:

كأن لم يكن بيني وبينكم هوى  ولم يك موصولا بحبلكم حبلي 

وإني لأستحيي لكم من محدّثٍ  يحدث عنكم بالملالة والمطل

حكى الشبلي رحمه الله تعالى قال: رأيت يوم جمعة معتوها عند جامع الرصافة قائما عريان وهو يقول: أنا مجنون الله، أنا مجنون الله، فقلت: لم لا تدخل الجامع وتتوارى وتصلي ? فأنشد يقول:

يقولون زرنا واقض واجب حقنا  وقد أسقطت حالي حقوقهم عني 

إذا أبصروا حالي ولم يأنفوا لهـا  ولم يأنفوا منها أنفت لهم منـي

قلت أنا: وهذا نوع آخر غير هذا الذي نحن فيه، وطرق الجد غير طرق المزاح ومما قلت أنا:

وإذا تهتّك في الهوى سري غدا  وتحدثت بصبابتي الـسـمّـار

أو قيل ذا المسكين أصل جنونه  سحر العيون وما له أنصـار

أيحل في شرع الهوى هذا ومن  أفتى بأنّ دم المحب جـبـار

وعلمت أن هواك أصل بليّتـي  فعلى صدودك لا عليّ العـار

أما سمع بما قنع به المحبون مثل جميل حيث يقول:

وإني لراضٍ منك يا بثن بـالـذي  لو أيقنه الواشي لقرّت بلابـلـه

بلا وبأن لا أستطيع وبالـمـنـى  وبالوعد حتى يسأم الوعد ماطله

وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضي  أواخره لا نلـتـقـي وأوائلـه

وجحدر حيث يقول:

أليس الليل يجمع أمّ عمـروٍ  وإيانا فـذاك بـنـا تـدان

وتنظر للهلال كـمـا أراه  ويعلوهها النهار كما علاني 

والآخر حيث يقول:

إلى الطائر النسر انظري كل ليلةٍ  فإني إليه بالعـشـية نـاظـر

عسى يلتقي طرفي وطرفك عنده  فنشكو جميعاً ما تجنّ الضمـائر

وأبي العلاء المعري حيث يقول:

لاقاك في العام الذي ولّى ولـم  يسألك إلا قبلةً في الـقـابـل

إن البخيل إذا تمد له الـمـدى  في الجود هان عليه بذل النائل 

وأما ذكره إبليس واستصراخه به وحثه على وسواسه وتزيين الباطل له، فإنه من الغريب أتراه ما علم أن المحب إذا قال لمحبوبه: ما يدعك تزورني وتحنو علي إلا إبليس بوسواسه أن المعشوق يمثل ذلك بين عينيه ويقول: إن هذه الأمور من فعل إبليس ومطاوعة الشيطان في إتباع المحرمات المحظورة، فيرجع إلى الهجران، ويتقمص شعار الجفا والصد والإعراض ويكون في ذلك كالنائم الذي أيقظه غيره من الغفلة.

قال بعضهم: كان لي صديق، وكان لا يحتشمني ولا أحتشمه، فقال لي يوماً : يا أخي قد علمت حبي لفلانه ولم أقدر منها على شيء قط وقد زارتني اليوم، وأحب أن تكون عندنا فإني لا أحتشمك. فأجبته إلى ذلك. فلما صرت إلى مكانه، وأخذت عيني الجارية فرأيت أحسن النساء. ثم إنا أفضنا في الأكل والشرب والحديث، وسألني صاحبي الغناء وكنت مجيدا فيه. وكأن الله تعالى أنساني جميع ما أحفظه إلا هذا الصوت:

من الخفرات لم تفضح أخاها  ولم ترفع لوالدها شـنـارا

فلما سمعته الجارية قالت: أحسنت والله أعده يا أخي فأعدته، فوثبت قائمة وقالت: أنا إلى الله تائبة، والله ما كنت لأفضح أخي وأرفع شنار أبي. فجهد الفتى في رجوعها فلم تفعل وخرجت. فقال لي: ويحك، ما حملك على ما صنعت ? فقلت: والله ما هو شيء اعتمدته، ولكنه ألقي على لساني.

فانظر إلى فائدة ما ذكرته. والأنسب في طلب الوصال أن يقول: اسأل الله أن يعطف قلبك علي، ويلهمك اغتنام الأجر فيّ ويرزقك رحمتي لتدخل في الجنة كما غالط القائل محبوبه في قوله:

تجنّيت لي ذنبي ولم أك مـذنـبـا  وحمّلتني في الحب ما لا أطيقـه

وما طلبي للوصل حرصٌ على البقا  ولكـنـه أجـرٌ إلـيك أسـوقـه

وكما غالط الآخر حيث قال:

قم بنا تفديك روحي  نجعل الشك يقينـا

فإلى كم يا حبيبـي  يأثم القائل فـينـا

وقد وقفت على بعض رسالة من كلام ابن سناء الملك وهو: وأنا والله في أمرك مغلوب والسبب أني أنا المحب وأنت المحبوب، ولا أتجالد عليك فأغرك، ولا أخون حبك ولا أقعقع عليك فأغشك وأغم قلبك، اعمل ما شئت فأنا الصابر، واقتل كيف شئت فأنا الشاكر، وقل لي فلي سمع يعشق قولك، والتفت تر آمالي ترفرف حولك، وافعل فأنت المعذور، واستطل فما أنا المضرور بل المسرور، وارجع إلى الود الذي بيننا فكل ذنب لك مغفور انتهى.

قلت: ولله الوزير أبو الوليد بن زيدون حيث يقول:

بيني وبينك ما لو شئت لـم يضـع  سرٌ إذا ذاعت الأسـرار لـم يذع

يا بائعا حظّه مني، ولـو بـذلـت  لي الحياة بحظي منـه لـم أبـع

يكفيك أنك إن حمّلت قلـبـي مـا  لا تستطيع قلوب الناس يستـطـع

ته أحتمل واستطل أصبر وعزّ أهن  وولّ أقبل وقل أسمع ومر أطـع

والآخر حيث قال:

هيهات لا جذب السّلوّ بمقـودي  أبدا ولا ظفر الملام بسلوتـي

إقطع وصل أوصدّ عني عامدا  طبع الغرام على هواك سجيّتي 

ومحاسن الشوا حيث يقول:

أدين فما يندني أفـيء فـمـا يفـي  أكف فما يكفي أجود فـمـا يجـدي

تهنوا أهن جوروا أجر أوعـدو أعـد  تسلوا أسل صولوا أصل هددوا أهدي 

وحيث يقول أيضاً :

فديتـك يا مـن تـجـنّـــى وصـــالا  وأحـرمـنـي فـي هـواه الـوصــالا

فلـلـحـسـن فـيك مـعـانٍ بـهـــا  تضل الـنـسـاء وتـلـهـي الـرجـالا

تروع تـراعـى تـحـابـي تـحـــبّ  تعـادي تـعـاد تـولـي تــوالـــى

------------

يا من وقفت على فرط الضنـى جـسـدي  فيه، وقلبي على التـعـذيب والـعـنـت

بن أدن قاطع أصل بـح أخـف شـح أجـد  خن أوف جر أعدل اسخط أرض عش أمت

والوزير أبو شجاع فاتك حيث قال:

يا ممـرضـا بـتـجـنّـيه وجـفـوتـه  قلبي، ويا تاركي لحـمـا عـلـى وضـم

كن كيف شئت فإنـي لـسـت أكـره مـا  ترضى، ولو أن ما يرضيك سفـك دمـي

أعرض وعرض وجر واهجر وصدّ وصل  واخشن ولن وارض واغضب واعف وانتقم 

في كل حالٍ أنا الجانـي الـمـسـىء وأن  ت المحسن الحسـن الأخـلاق والـشـيم

وابن رواحة الحموي:

إن كان يحلو لديك قتلـي  فزد من الهجر في عذابي 

عسى يطيل الوقوف بيني  وبينك الله في الحـسـاب

وهذا أكثر وأشهر من أن يستشهد له.

وأما إضافة السحر وعقده إلى إبليس، فإنه من العجب، والسحر والعقد إنما هما للآدميين ليستخدموا إبليس وجنوده، فالسحر للإنسان لا للشيطان.

وما أحلى قول.... حين استصرخ بإبليس تظرفا منه:

الخمر يا إبليس إن لم تقـم  وتوسع الحيلة في ردّهـا

لانفقت سوق المعاصي ولا  أفلحت يا إبليس من بعدها

وأما دعواه في وصف الدينار بذي الوجهين وأنه لم يسبق إليه، فأول ما وصفه الحريري بذلك، فقال في مقاماته:

تبا له من خادعٍ مـمـاذق  أصفر ذي وجهين كالمنافق 

يبدو بوضعين لعين الرامق  زينة معشوق ولون عاشق

وقد جاء ذكر الدينار في مقامات البديع الهمذاني فقال: فاستصحب لي عدوا في بردة صديق، من نجار الصفر، يدعو إلى الكفر، ويرقص على الظفر، كدارة العين يحط ثقل الدين، وينافق بوجهين.

وما أحسن قول ناصر الدين بن النقيب ملغزا في الدينار:

أيّ شيءٍ تصبو الناس إلـيه  صبوة العاشقين للمعشـوق

ضربوه وعلقـوه ولـكـن  زاد عزا بالضرب والتعليق 

وأما قوله: يمضي سفيرا ويعود عاشقا وليس على الحسن أمانة، فمأخوذ من قول أبي الطيب:

ما لنا كلنا جوٍ يا رسـول  أنا أهوى وقلبك المتبـول

كلما عاد من بعثت إليهـا  غار مني وخان فيما يقول 

أفسدت بيننا الأمانات عينـا  ها وخانت قلوبهن العقول

ومن هنا أخذ الأرجائي أيضاً حيث قال:

قسماً لقد رجع النسيم عليلاً  لما سرى مني إليك رسولا

فأتى لبرح هواك وهو مردد  نفساً يسارقه الأنام طـويلا

ورأى لحبك أنه قدخانـنـي  فغدا يجر من الحـياء ذيولا

ومن هنا أخذ قول ابن سناء الملك أيضاً :

راح رسولا وجاءني عاشق  وعاقه عن رسالتي عائق

وعادلا بالجواب بل بجـوىً  أخرسه والهوى به ناطق

ولكن الأرجاني تستر في سرقته.

قال في تعزية بزوجة توفيت ثم توفي ولدها،: أشجي التعازي ما أتبع فيه المفقود بمفقود، لا سيما إذا جمع بين سعد الأخبية وسعد السعود ثم قال ولم يوفهما حقهما من بكى ولا من ندب، ولا من شعر ولا من كتب، وليت فدي أحدهما بصاحبه فعاش درهما المفدي بالذهب...

ثم ساق باقي الرسالة وهي طويلة غثه سمجة، إلا أنه بعد الفراغ منها أخذ يطنطن ويدندن في قول سعد الأخبية وسعد السعود وأنهما منزلتان من منازل القمر، ويعجب من هذا الاتفاق.

 

مناقشة نموذج من إنشاء ابن الأثير

وأقول: إنه نفخ في غير ضرم، وطاف بغير حرم، وليس ذلك بكبير أمر، ولا مما ينبه عليه بعد الفراغ منه، بل هو في الرتبة الوسطى لا ينحط انحطاطه في عادته، ولا يرتفع ارتفاع القاضي الفاضل.

وقد استعمل الناس أسماء المنازل والكواكب في كلامهم جدا وهزلا ، كقول سيف الدين المشد ابن قزل:

ضلّ فؤادي بين أبـياتـكـم  وناره تضرمهـا الأهـويه

يا ذابح النوم بطرفـي أمـا  ترثي لقلبٍ ضل في الأخبيه 

وقوله أيضاً :

ألا يا وادي الـشـقـــرا  ء كم قد حزت من نزهـه

غياضٌ مـاؤهـا يجـري  فما في طيبها شـبـهـه

وكم بـدرٍ يروق الـطـر  ف أضحى منك في الجبهه 

وقوله أيضاً :

بدا في الدرع مثـل الـرم  ح في الأعطاف والسمره 

فيا لـلـه مـن بـــدرٍ  يروق الطرف في النثره

وقول العدل برهان الدين بن الفقيه نصر:

بخدمتكـم لـم أنـل طـائلا  وميزان نقصي بكم راجـح

ففي الطرف من أدمعي نثرةٌ  وفي القلب من سعدكم ذابح

ومن أحسن الكنايات قول الآخر:

ألم ترني أكابد فيك وجدي  وأحمل منك ما لا يستطاع 

إذا ما أنجم الجو استقلّـت  ومال الدلو وارتفع الذراع 

وقول محمد سبط التعاويذي:

فبتّ وباتت إلى جانبـي  نعدّ المنازل فيها كلانـا

تريني البطين ولكنـنـي  أقارضها فأريها الزبانى 

وقول الآخر من أبيات:

فأعجلته عن دخول الكنيف  بجهلٍ مطاعٍ وحلمٍ مطاع

فغرّقت منه بنوء البطـين  وروّاه مني نوء الـذراع

وأما قوله: وليت لو فدي أحدهما بصاحبه، أحسن من هذا قول المتنبي:

فليت طالعة الشمسين غـائبةٌ  وليت غائبة الشمسين لم تغب 

وتمام السجعة نصف بيت من هذه القصيدة لأبي الطيب، أول:

قد كان قاسمك الشخصين دهرهما  فعاش درهما المفديّ بالـذهـب

قال: ومن هذا الباب ما أوردته في رسالة طردية في وصف قسي البندق وحامليها ثم إنه ساقها.

أقول: وهي أيضاً من الوسط، فلا تكون في العالي ولا السقط، وذكرت بالطريق التي سلكها فيها ما جاء لبعض كتاب العجم فيما أظن، في القوس التي للسهام، فإنها في حسنها فذة، ونكتها في سلب العقول مغذة، وصناعتها لم تدع في المثاني والمثالث عند النفوس بعدها لذة. وهي:

 

رسالة لابن الأثير في وصف قسي البندق وحامليها

ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا ، حكيم جبل على السداد، يهدي إلى سبل الرشاد، آثار بأسه مشهورة على ذوي الأعواد ويسألونك عن الأهلة، فقل صفر من غير علة، مجرة تنقض منها نجوم الرجوم، برج ذو جسدين يطلع بالطائر المشؤوم، شيطان تطلع شمس النصر بين قرنيه، مارد لا يسكن إلا بتعريك أذنيه، صورة مركبة ليس لها من تركيب النظم، إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا أو ما اختلط بعظم. مطية تخالف سائر الأنعام، قيامها باليد وقيامهن بالأقدام. متحرك يعض على ناجذ التصبر في الشدة والرخاء، من صحبه طرفة عين مشى على الهواء، فقل في نون التقم مرسلا فنبذه بالعراء. مقيد يحمل عليه المطلق، طريد العنق من جيد عاتقه معلق. ناحل ألصق بطنه بظهره، حتى بدت للناظرين بنات صدره، وغارت كلاه في خصره، لاستيلاء قوتيه الجاذبة والماسكة على قوتيه الدافعة والهالكة. مقبوض يقارب السريع، ويفارقه عند التقطيع. وهري أتى عليه قرن بعد قرن فانحنى مطاه، لا ينصب إلا على اليد متكاه، وينشد إذا فتح فاه:

سلبت عظامي لحمها فتركـتـهـا  مجردةً تضحي لديك وتحـصـر

خذي بيدي ثم اكشفي الثوب تنظري  ضنى جسدي لكننـي أتـسـتّـر

منحني الظهر يتوكأ على عصا، ويلقيها فإذا هي حية تسعى.

تنكب رماح الخط والبيض خلها  وأما الحنايا حلّها وتـنـكـبـا

أقبل على تعاطي القنا من مغاوير الرجال، وتناولتها بالساعد مساعير الأبطال. آلة حدباء تنذر بالمنون، وأعوجي ضامر كحرف النون. أنضاء تحن على غلظ أكبادها، عطوف تئن لفراق أولادها. فرع شد بهداب الدمقس المفتل، ضارب بسهميه في أعشار قلب مقتل. غلاظ شداد قاسية القلوب جافية الطباع، توكل بقبض الأرواح ذي أجنحة مثنى وثلاث ورباع. نضو يهدر إذ لن في قرن، جامع إلى بطن الشارخ انحناء اليفن، مكدود كاد ينقطع منه الوتين، منحني الظهر شارف عقد الستين....

وهي طويلة تدخل في كراسة، وكلها من هذا الأنموذج.

وقد عارضها جماعة، منهم القاضي ناصر الدين بن المنير، ضنع ثلاثة أو أكثر، وغيره، وكلهم لم يشق لها غبارا ، ولم يجر من الذيل خلفها إلا ما كان عثاراً.

وأما البندق، فلشيخنا القاضي شهاب الدين أبي الثناء محمود رحمه الله تعالى فيه رسالة طنانة، الدرة مع الشذرة تزدحم فيها كالحب في الرمانة، أثبتها في كتابه الموسوم بحسن التوسل وهي من الحسن في غاية، ومن طبقات الأدب في نهاية. ولولا طولها لأثبتها هنا، وأوجدت فقر هذا التأليف منها الغني.

ولابن الرومي قصيدة عينية في البندق والرماة رجز طويلة. ولمحمد سبط التعاويذي قصيدة في رمي البندق أولها:

حيّيت يا دار الهوى من دار  ولا عدتك السحب السواري 

في غاية الحسن، وهي في ديوانه.

ومن أحسن ما ذكرته في قوس البندق قول ابن وضاح المرسي:

عجبا من القوس الكريمة إنها  لم ترع حق حمائم الأغصان

أضحت لها حتفا وكانت مأمنا  وكذاك حكم تصرف الأزمان 

وأما أنا فقد كتبت توقيعا بالحكم بين رماة البندق، لا بأس بإثباته هنا. وهو: الحمد لله الذي لم يزل حمده واجبا ، ورفده لكل خير واهبا ، وشكره للنعم جالبا وللنقم حاجباً، وذكره للبؤس سالبا ، وللنعيم كاسبا . نحمده على نعمه التي نصرع بالحمد أصناف أطيارها ونقص بالشكر أجنحتها فلا قدرة لها على مطارها. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا يكون لنا بها عن الفوز بالجنة عذر، ولا نجد بها نفوسنا يوم البعث إلا في حواصل طوير خضر.

ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من قدم ذوي الرتب، وأشرف من حكم بالعدل العاري من الشبه والريب. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين كانوا في الحروب عقبانها الكواسر، وفرسانها الذين أشبعوا من لحوم العدى ذوات المخالب والمناسر، ما أحمد الرامي في المرام عزمه، وسعت له في الرتب قدم قدمة. وسلم تسليما كثير. وبعد.

فلما كان الرمي بالبندق فناً تعاطاه الخلفاء والملوك، وسلك الأمراء والعظماء منه طريقة لطيفة المأخذ طريفة السلوك يرتاضون به عند الملل لاسترواح نفوسهم، ويجنون ثمرات المنى في التنزه من عروش غروسهم، ويبرزون إلى ما يروق الطرف ويروع الطير من برزاتهم، وينالون ببنادق الطين من الطير ما لا يناله سواهم بجوارح صقورهم ولا بزاتهم. قد نبذوا في تحصيل المراتب العلية شواغل العلق، وتدرعوا شعار الصدق بينهم وهم أصحاب الملق، ومنعوا جفونهم من ورد حياض النوم إلا تحلة، وبرزوا بوجوه هي البدور وقسي هي الأهلة. وتنقلوا في صيد النسور تنقل الرخ، وصادوا الطيور في الجو لما نثروا حبات الطين من كل قوس هو كالفخ، وصرخوا على الأوتار وكانت ندامى الأطيار على سلاف المياه من جملة صرعاها، واقتطفوا زهرات كل روضة أخرجت ماءها ومرعاها، احتاجت هذه الطريق إلى ضوابط تراعى في شروطها، وتسحب على الجادة أذيال مروطها، ليقف كل رام عند طور طيره، ويسبر بتقدمه غور غيره، ليؤمن التنازع في المراتب، ويسلم أهل هذه الطريقة من العائب والعاتب.

وكان المجلس السامي الأميري الشهابي هو الذي جر فيها على المجرة مطرفه، وأصبح ابن بجدتها علما ومعرفة، تطرب الأطيار لنغمة أوتاره، وتنشق مرائر الطير غيرة من لون غياره، وتود المجرة لو كانت له طريقا والشمس جراوة والسماء ملقة، وتتمنى قوس السحاب الملونة لو كانت قوسه والنسر طائره والنجوم بندقه. كم جعل حلل الروض المرقومة بما صرعه مطايره، وكم خرج في زمر والطير فوقهم صافات فصاد بدر تم حين بادره، وكم ضرج في معرك الجو من قتيل ريشه كالزرد الموضون، وكم أرسل البندق فكان سهما ماضيا لأنه من حمأ مسنون.

فلذلك رسم الأمر العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري، لا زال طائره ميمونا ، ودر أمره في أدراج الامتثال مكنونا ، أن يفوض إليه الحكم يبن رماة البندق بدمشق المحروسة، على عادة من تقدمه في ذلك من القاعدة المستقرة بين الرماة. فليتول ذلك ولاية يعتمد الحق بها في طريق الواجب، ويظهر من سياسته التي شخصت لها العيون فكأنما عقدت أعالي كل جفن بحاجب، وليرع حق هذه الطريق في حفظ موثقه، وليجر على السنن المألوف من هذه الطائفة فكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه، بحيث إنه ينزل كل مستحق في منزلته التي لا يعدوها، ويقبل من الرامي دعوى صيده الواجب له ويرد ما لا يعتد به الرماة ولا يعدوها، متثبتا فيما يحمل إليه للحكم ولا يرخ على عيبه ذيلا ، محررا أمر المصروع الذي أصبح راميه من كلفه به مجنون ليلى، جريا في ذلك على العادة المألوفة، والقاعدة التي هي بالمنهج الواضح موصوفة. وليتلق هذه النعمة بشكر يستحق به زيادة كل خير، ويتل آيات الحمد لهذا الأمر السليماني الذي حكمه حتى في الطير. والله يتولى تدبيره، ويصلح ظاهر حكمه والسريرة. إن شاء الله تعالى.

 

هل من شرط بلاغة التشبيه

أن يشبه الشيء بما هو أكبر منه وأعظم

قال في النوع الثامن من التشبيه: وقد قيل: إن من شرط بلاغة التشبيه أن يشبه الشيء بما هو أكبر منه وأعظم، ومن ها هنا غلط بعض كتاب أهل مصر في ذكر حصن من حصون الجبال مشبها له: هامة عليها من الغمامة عمامة، وأنملة خضبها الأصيل وكأن الهلال لها قلامة.

ثم إنه أخذ يعيب هذا ويقول: أي مقدار للأنملة أن تشبه الحصن وأطال باعتراض وجواب.

أقول: إن ابن أبي الحديد ناقشه في ذلك، وقد بقي شيء من مؤاخذته على هذا.

وهو أن الذي ادعى أن من بلاغة التشبيه أن يشبه الشيء بما هو أكبر منه وأعظم، أبحث معه وأقول: فعلى هذا تبطل غلبة الفرع على الأصل في التشبيه، ونخطىء مثل ذي الرمة في مثل قوله: ورملٍ كأوراك العذارى قطعته  إذا ألبسته المظلمات الحنادس

فإنه شبه كثبان الرمل بما هو أقل منها وأحقر، لأن أوراك العذارى دون الكثبان. ولا نستحسن مثل قول أبي بكر محمد بن هاشم.

والمشتري وسط السماء تخاله  وسناه مثل الزئبق المترجرج

مسمار تبرٍ أصفرٍ ركّـبـتـه  في خاتمٍ والفصّ من فيروزج 

فإن كرة السماء والمشتري أكبر من الفص والمسمار.

ولا قول ابن قزل:

فصلٌ كأنّ البدر فيه مطربٌ  يبدو وهالتـه لـديه طـاره

وكأنّ قوس الغيم جنكٌ مذهبٌ  وكأنما صوب الحيا أوتـاره

ومثل هذا كثير. وكل ما كان في العالم العلوي لا يشبه بشيء من العالم الأرضي لأنه أحقر وأقل، كما تشبه الثريا بالنرجس الذابل، والهلال بالقلامه والنعل، والبرق بالسيف، والشمس بالمرآة، والنجوم بالسراج، وقوس قزح بأذيال العروس، وجميع ما هو من هذا الباب لا يجوز تشبيهه، وإن كان فلا يكون بليغا على هذا التقرير. وهيهات هذا سد لباب الحسن. وأما الحصون، فقد شبهها الشعراء بالأنامل، منهم الغزي حيث يقول:

سدّ البسيطة نازلا مـن قـلّة ال  جبل الأشمّ إلى قـرار الـوادي

حتى غدا الحصن المبارك خنصرا  في خاتمٍ مـن بـهـمةٍ وجـواد

وقد استعمل ابن الأثير ذلك، فقال في فصل تقدم: فنزلنا منه بمرأى ومسمع، واستدرنا به استدارة الخاتم بالإصبع.

وشبهها ابن قزل بالعين فقال:

إنّ الحصون لكالعيون فهدبها  شرفاتها وجفونها الأصـوار

وكذا محاجرها الخنادق حولها  والحافظون لها هم الأشفـار

ومن يعيب مثل قول القاضي الفاضل: ونزلنا قلعة نجم وهي نجم في سحاب، وعقاب في عقاب، وهامة لها الغمامة عمامة، وأنملة إذا خضبها الأصيل كأن الهلال لها قلامة.

فما ينبغي لمجادل يناظره إلا كف القول عنه، وهل الطعن على هذا إلا قول من لم يصل إلى العنقود.

كأنّ عائبكم يبدي محاسنكـم  به ويمدحكم عندي ويغريني 

ويكفيه أنه عاب مثل هذه الألفاظ التي بهر حسنها لما ظهر، وغدت وفي كل ضاحية من وجهها قمر.

وقول الفاضل يشبه قول ابن خفاجة:

في خضر غورٍ بالأراك موشّحٍ  أو رأس طودس بالغمام معمّم

ومن إنشاء شيخنا شهاب الدين محمود رحمه الله تعالى في وصف حصن: حصن قد تقرط بالنجوم وتقرطق بالغيوم، وسما فرعه إلى السماء ورسا أصله في التخوم، تخال الشمس إذا علت أنها تتنقل في أبراجه، ويظن من سها إلى السهى أنه ذبالة في سراجه، لا يعلوه من مسمى الطير غير نسر السماء ومرزمه، ولا يرمق متبرجات بروجه غير عين الشمس والمقل التي تطرف من أنجمه، وحوله من الجبال كل شامخ تتهيب عقاب الجو قطع عقابه، وتقف الرياح حسرى إذا توقلت في هضابه، تخاف العيون إذا رمقته سلوك ما دونه من المحاجر، ويخيل الفكر صورة الترقي إليه ثم لا يبلغها حتى تبلغ القلوب الحناجر، وحوله من الأودية خنادق لا تعلم منها الشهور إلا بأنصافها ولا تعرف فيه الأهلة إلا بأوصافها.

قال كعب الأشقري يصف حصنا :

محلّقةٌ دون السمـاء كـأنـهـا  غمامة صيفٍ زال عنها سحابها 

فلا يبلغ الأروى شماريخها العلا  ولا الطير إلا نسرها وعقابهـا

ولا خوّفت بالذئب ولدان أهلهـا  ولا نبحت إلاّ النّجوم كلابـهـا

والخالديان:

وقلعةٍ عانق العيّوق أسفـلـهـا  وجاز منطقة الجوزا أعالـيهـا

لا يعرف القطر إذ كان الغمام بها  أرضا توّطأ قطريه سواسـيهـا

إذا الغمامة لاحت خاض ساكنهـا  حياضها قبل أن تهمي عزاليهـا

يعدّ من أنجم الأفلاك مرقـبـهـا  لو أنه كان يجري في مجاريهـا

على ذرى شامخٍ وعزٍ قد امتلأت  كبرا به وهو مملوءٌ بها نـيهـا

له عقابٌ عقاب الـجـو حـائمةٌ  من دونها فهي تخفى في خوافيها 

وقالا أيضاً في ذلك:

وحلقاء قد تاهت على مـن يرونـهـا  بمدقبها العالي ومركبها الـصـعـب

يزرّ عليها الجـو جـيب غـمـامـه  ويلبسها عقدا بأنجـمـه الـشـهـب

إذا ما سرى برقٌ بدت مـن خـلالـه  كما لاحت العذراء من خلل السحـب

سموت لها بالرأي يشرق في الـدجـى  ويقطع في الجلّى وتنهض في الصعب 

فأبرزتها مهتوكة الجـيب بـالـقـنـا  وغادرتها ملصوقة الخد بـالـتّـرب

 

مناقشة حول التشبيه في أبيات أحد الشعراء

قال في النوع الثاني من التشبيه بعدما أورد قول الشاعر:

وكأنّها وكأنّ حـامـل كـأسـهـا  إذ قام يجلوها علـى الـنّـدمـاء

شمس الضّحى رقصت فنقّط وجهها  بدر الدّجى بكواكـب الـجـوزاء

إنه شبه الساقي بالبدر، وشبه الخمر بالشمس، وشبه الحبب الذي فوقها بالكواكب.

أقول: قد ادعى أنه شبه ثلاثة بثلاثة، وهو لم يشبه الساقي، ولا في البيتين ما يدل على تشبيهه، على أن الشاعر توهم أنه شبه الساقي ولم يذكره، وقلده ابن الأثير رحمه الله في وهمه. ومعناهما: أن الخمر في حببها كأنها شمس رقصت فنقطها البدر بالكواكب، وكنى برقصها عن اضطرابها عند المزج. وحسن ذكر البدر هنا لأنه يصاحب الكواكب، وهو أكبرها في رأي العين، لا في العقل إذا فكر في الهيئة، فحسن أن يكون له الكواكب تصرف لينقط الشمس بها. وذكر البدر هنا أمر على طريق الاستطراد، لما ذكر النقوط، أراد أن يسند فعله إلى فاعل صدر عنه، فحسن أن يذكر البدر. ولو حذف من الكلام تم المعنى في الأصل، كما يقال: كأن الخمر شمس رقصت فنقطت بالكواكب. والشاعر أثبت أداة التشبيه للساقي في قوله: وكأنها وكأن حامل كأسها.

ولم يأت له بمشبه به، فالشاعر واهم، وابن الأثير مقلد، وكلاهما اغتر بذكر البلد، لأن العادة قد جرت بتشبيه الساقي بالبدر، والخمر بالشمس. كقول الشاعر:

إسقنيها بنـت كـرمٍ  عتّقت عشراً وخمساً 

بات يجلوها علـينـا  قمرٌ يحمل شمسـا

وقول الآخر:

وساقٍ كالهلال يدير شمسـاً  على النّدمان في مثل الهلال 

وقول ابن الرومي:

أبصرته والكأس بين فـمٍ  منه وبين أناملٍ خـمـس

فكأنّها وكأنّ شـاربـهـا  قمرٌ يقبّل عارض الشمس 

ولو كان الشاعر شبه الساقي لقال: شمس يديرها بدر أو يطوف بها أو يحملها. وهذان البيتان مشهوران بين أهل الأدب، ولعل أحدا ما تفطن لهذا النقد. وما أقول: لأن الشاعر أدخل أدلة التشبيه على مثار النقع وأسيافهم وأتى بمشبه واحد هو الليل وقوله: تهاوى كواكبه في موضع الصفة لليل، فهي من لواحق الليل.

ولو قال: ليل تهاوى كواكبه، ورقمه البرق ووشاه الصبح، لكان كل ذلك مشبها به ليس إلا. ولو كان من باب تشبيه اثنين باثنين لقال: ليل وكواكب تتهاوى. كما قال امرؤ القيس:

كأنّ قلوب الطير رطبـا ويابـسـا  لدى وكرها العنّاب والحشف البالي 

وهذا الذي ذكرته ثابت على محك النظر ليس بدعوى مجردة عن الدليل والبرهان. وللعكوك بيت هو بيت بشار بن برد. وهو:

كأنّ سموّ النقع والبيض حولـه  سماوة ليلٍ أسفرت عن كواكب 

وما أحسن قول ابن قاضي ميلة:

بتنا ونحن على الفرات نديرها  ليلا فأشرق من سناها النيل

وكأنها شمسٌ وكف مديرهـا  فينا ضحى وفم النديم أصيل

وذكرت بالبيتين اللذين أوردهما ابن الأثير رحمه الله تعالى قول ابن السراج في مجدور:

لي قمرٌ جدّر لما اكتسـى  فزاده حسنا وزادت هموم 

كأنه غنّى لشمس الضّحى  فنفّطته طربا بالنـجـوم

وقول أبي يزيد العاص أكثر مناسبة من هذا، فإنه قال:

عابه الحاسد الذي لام فيه  أن رأى فوق خدّه جدريّا 

إنما وجهه كبدر تـمـامٍ  جعلوا برقعا عليه الثريا

لأن الثريا قد ترى مع البدر، وأما النجوم فلا ترى مع الشمس. ويمكن أن يقال فيه: ولهذا قال: نقطته طربا بالنجوم، فإن من نقط بشيء فقد بان عنه وفارقه.

ويمكن أيضاً التأويل للبيتين اللذين أوردهما ابن الأثير أيضاً ولكنه بعيد.

 

مناقشة نماذج من التشبه من إنشاء ابن الأثير

قال في التشبيه: ومن ذلك ما كتبته من جملة كتاب إلى ديوان الخلافة أذكر فيه نزول العدو الكافر على عكا. فقلت: وأحاط به العدو إحاطة الشفاه بالثغور، ونزل عليه نزول الظلماء على النور.

أقول: ليس في ذلك مبالغة، لأن الشفاه لا تحيط بالثغور، والإحاطة اشتمال المحيط على المحوط من كل جانب، كالدائرة بالنقطة، وعنصر الماء بكرة الأرض، وبياض العين بالسواد. أما الشفاه فإنما هي ساترة لا محيطة.

والكامل في ذلك قول الحريري رحمه الله تعالى: وقد أحاطت به أخلاط الزمر، إحاطة الهالة بالقمر والأكمام بالثمر. وقول القاضي الفاضل: وأبقاه بقاءاً خارقاً للعوائد، وجعل أياديه مطيفة بالأعناق إطافة القلائد وليست الشفاه كذلك، إنما هي تستر الظاهر دون الباطن.

وقوله: نزول الظلماء على النور، لا بأس به، من نسبة الكفار إلى الظلام، ونسبة ثغر عكا إلى النور لكونه كان في أيدي المؤمنين.

وما أحلى قول القاضي الفاضل رحمه الله تعالى من كتاب في فتح طبرية: وصبح الخادم طبرية وهجم عليها هجوم الطيف، وافتض عذرتها بالسيف.

قال: ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب إلى بعض الإخوان فقلت: وما شبهت كتابه في وروده وانقباضه، إلا بنظر الحبيب إلى إقباله وإعراضه وكلا الأمرين كالسهم في ألم وقعه وألم نزعهن والمشوق من اشتهرت صبابته في حالتي وصله وقطعه.

أقول: هذا مأخوذ من قول الشاعر ..........

ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت  وقع النصال ونزعه، أليم 

 

براعة التشبيه في بيت للبحتري

قال وقد أورد قول البحتري:

وتراه في ظلم الوغى فتخالـه  قمرا يكرّ على الرّجال بكوكب 

وفي هذا التشبيه ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء، فإنه شبه العجاج بالظلمة، والممدوح بالقمر، والسنان بالكوكب. وهذا من الحسن النادر.

أقول: هذا من أنموذج ما تقدم من قوله في قول الشاعر: وكأنها وكأن حامل كأسها... البيتين. 

هناك وهم الشاعر فقلده، وهنا انفرد هو بالوهم دون البحتري، لأن البحتري ما قال: وتراه في عجاج الحرب إذا كر على الرجال برمحه، قمرا يجول في الظلام بكوكب، ولو كان البيت يفهم منه هذا المعنى، كان تشبيه ثلاثة بثلاثة، وليس في البيت غير تشبيه واحد لأنه قال: تراه في ظلم الوغى فتخاله قمراً.

هذا هو المعنى الذي بني عليه البيت. وأما قوله: يكر على الرجال بكوكب، فمن لواحق القمر ألا ترى أن الجملة في موضع النصب على أنها صفة لقمر.

ومن العجيب أنه ادعى أن البحتري شبه العجاج بالظلم، والبحتري جعل العجاج نفسه ظلاماً. ولو أتى ذكر الظلام في عجز البيت، لدخل في المشبه به واندرج بين القمر والكوكب، وإنما جاء ذكره في أصل المشبه.

وما أحسن قول المعتمد بن عباد:

ولما اقتحمت الوغى دارعا  وقنّعت وجهك بالمغـفـر

حسبنا محيّاك شمس الضحى  عليها سحابٌ من العنـبـر

وقول ابن الزقاق.

لو كنت شاهده وقد غشي الوغى  يختال في درع الحديد المسبـل

لرأيت منه والحسـام بـكـفـه  بحرا يريق دم العداة بـجـدول

وقول الغزي:

وقد سلب الطّعن الأسنّة لونـهـا  فعصفر في اللبّات ما كان أزرقا 

وأسيافنا في السابغات كـأنـهـا  جداول تجري بين زهرٍ تفتّـقـا

وقوله أيضاً :

وكم رعت من ملومةٍ لا تبين من  فوارسها إلا الظبى والحمـالـق

تخوض النّجيع احمرّ تحت دلاصه  كما نبتت حول الغدير الشقـائق

وهذا مأخوذ من قول أبي الطيب:

تعوّد أن لا تقضم الحبّ خـيلـه  إذا الهام لم ترفع جنوب العلائق 

ولا ترد الغدران إلا ومـاؤهـا  من الدّم كالريحان تحت الشّقائق

ومما قلته أنا في هذا النوع:

وسيوفٍ إذا مضت في جراحٍ  قلت هذا بنفسجٌ في شقـيق

ينشد الجسم روحه من ظباها  ودماها بين النقا والعـقـيق

وأما ما يشبه قول البحتري الذي أورده ابن الأثير، فقول أبي فراس فيما أظن:

وقفلت عنهم غانما وقلوبهـم  فيها لخوفك عسكرٌ جـرّار

وأتيت يقدمك السّنان كما أتى  قبل الصباح الكوكب الغّرار 

قال: ومن التشبيهات الباردة قول أبي الطيب:

وجرى على الورق النجيع القاني  فكأنه النارنج في الأغـصـان

أقول: لعمري إنه معذور في هذا، وهو من سقطات المتنبي التي ينحط فيها، وهذا البيت من تلك القصيدة التي افتتحها بقوله:

الرأي قبل شجاعة الشجعان  هو أولٌ وهي المحلّ الثاني 

الأبيات الخمسة.

فانظر إلى هذا الافتتاح، وما أتبعه من الحكم والأمثال مع الفصاحة والبلاغة وفي هذه القصيدة مثل قوله:

وتوهموا اللعب والوغى والطعن في ال  هيجاء غير الطعـن فـي الـمـيدان

ومنها يصف العدو المنهزم:

يغشاهم مطر السحاب مفصّلا  بمهنّدٍ ومثـقّـفٍ وسـنـان

وقبل البيت الذي أورده ابن الأثير:

قد سوّدت شجر الجبال شعورهم  فكأنّ فيه مسفة الـغـربـان

ولما عكس أبو المطرف بن أبي بكر المخزومي معنى أبي الطيب في تشبيه نارنجة في نهر جاء حسنا . فإنه قال:

ومنظرٍ أرّقني حـسـنـه  من أزرقٍ ينساب كالأرقم

أبصرته يحمل نـارنـجةً  طافيةً حمراء كالعـنـدم

ودرّجت ريح الصبا متنـه  لمّا انبرت وهي به ترتمي 

فخلته سيف وغىً مصلتـا  هزّ وفيه قطرةٌ مـن دم

وقال ابن فتحون في ذلك:

والماء فوق صفائه نارنـجةٌ  تطفو به وعجاجه يتمـوّج

حمراء قانية الأديم كأنّـهـا  وسط المجرّة كوكبٌ يتوهّج 

فأتى بالمعنى في بيتين، وأبو المطرف في أربعة فأطال.

وذكرت بقول أبي المطرف، قول القاضي عياض رحمه الله تعالى:

كأنّما الزرع وخـامـاتـه  وقد تبدّت فيه أيدي الرياح 

كتائب تجفل مـهـزومةً  شقائق النّعمان فيها جراح 

 

مناقشة نموذج آخر من إنشاء ابن الأثير

قال في القسم الأول من النوع الرابع في الالتفات، بعدما تكلم على ما في سورة الفاتحة من الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، وفرغ من ذلك: فانظر إلى هذا الموضع، وتناسب هذه المعاني الشريفة، التي الأقدام تكاد تطؤها والأفهام مع قربها صافحة عنها.

أقول: أكذا يقال بعد ذكر أسرار القرآن الكريم وإيضاح غامضه. وما أفاد قوله: المعاني الشريفة وتأدبه بقوله تكاد الأقدام تطؤها ! وكان الأحسن أن لو قال: فانظر إلى هذه المعاني الشريفة كيف غدت شموسها ضاحية، والبصائر عن إدراك ضيائها لاهية. أو أن يقول: تكاد تيجانها تقع على المفارق، والأذهان عاطلة الجيد من درها المتناسق.

 

الالتفات في بعض الآيات

قال في الالتفات وقد ذكر قوله تعالى: "ثمّ استوى إلى السّماء وهي دُخان" الآية. إنما عدل عن الغيبة إلى الخطاب في قوله تعالى: "وزيَّنّا السّماءَ الدُّنيا" لأن طائفة من الناس غير المتشرعين يعتقدون أن النجوم ليست في سماء الدنيا، وأنها ليست حفظا ولا رجوما . فلما صار الكلام إلى هنا، عدل عن خطاب الغائب إلى خطاب نفسه لأنه مهم من مهمات البلاغة في الاعتقاد، وفيه تكذيب الفرقة المكذبة المعتقدين بطلانه.

أقول: إن اعتقادهم أنها ليست في سماء الدنيا وليست رجوماً، نوع على اعتقاد قدم العالم، وأن الله تعالى موجب بالذات دون حدوث العالم والفاعل المختار.

وعلى ما قرره، فإضافة الفعل في خلق السماوات في يومين، ووحي أمرها فيها إلى المتكلم، يكون أولى من أن تكون إخبارا عن غيره، لأنه الأصل، والعناية بالأصل أولى من العناية بالفرع، لأنه إذا ثبت الأصل ثبت الفرع ولا ينعكس، ولو كان هذا أولى لما عدل عنه، ولكنه قد عدل عنه لحكمة لم تظهر لابن الأثير.

 

اقحام النحو

قال في النوع الرابع في توكيد الضميرين: ولربما قيل في هذا الموضع: إن الضمائر مذكورة في كتب النحو فأي حاجة إلى ذكرها هنا ? ولم يعلم أن النحاة لا يذكرون ما ذكرته، لأن هذا يختص بفصاحة وبلاغة، وأولئك لا يعرضون إليه، وإنما يذكرون عدد الضمائر، وأن المنفصل منها كذا والمتصل كذا ولا يتجاوزون ذلك. وأما أنا فقد أوردت في هذا النوع أمرا خارجا عن الأمر النحوي.

أقول: إن نحو المتقدمين غالبه معان وبيان، مثل: الرماني وأبي علي الفارسي وابن جني على تأخر زمانهم، وأكثر ما هو الآن مدون في علم المعاني مذكور في كتب القوم، ولكن لما أتى الإمام عبد القاهر الجرجاني، جرد هذه النكت التي ليست بإعراب ولا بد، وجمعها ودونها وبوبها ورتبها، صار علما قائما برأسه، وتنبه الناس بعده كالسكاكي وغيره تفتحت لهم الأبواب.

ولهذا إن من لم يكن متمكنا من النحو، لا يقدر على الكلام في هذا. ألا ترى أن الزمخشري لما كان عارفا بالنحو تيسر له في تفسيره ما لا تيسر لغيره، وباقتداره على الإعراب والنظر في أسرار العربية وتعليل أحكامها أورد تلك الإشكالات، وأجاب عنها بتلك الأجوبة المرقصة، وبالنحو استطال ومهر وتبحر ودربه فني النظم والنثر هي التي نبهته لذلك. حتى إن الإمام فخر الدين في تفسيره تراه إذا تكلم في سائر العلوم غير مقلد لأحد، فإذا جاء المعاني والبيان قلد الزمخشري في ذلك وقال: قال محمود الخوارزمي وقال صاحب الكشاف. ولهذا قال العلماء: من نظر في الكشاف ولم يكن عارفا بالعربية وأصول الدين، صار معتزليا ، وما أشبه وضع علم المعاني والبيان إلا بالفقه. فإن الفقهاء قديما في التابعين إنما كانوا محدثين فلما جاء أبو حنيفة رضي الله عنه دون الفقه وقرر قواعده، وقاس ما لم يبلغه فيه حديث على ما ورد فيه الحديث، وجاء الناس من بعده ومدوا فيه الأطناب، وفتحت لهم الأبواب. وانفرد الفقهاء بهذا العلم عن المحدثين، واختص الفقهاء بمعرفة الأحكام والاستنباط وتركوا معرفة طرق الحديث وأسماء رجاله وصحيحها من سقيمها للمحدثين. ولهذا تسمعهم يقولون، فلان من الفقهاء المحدثين. وأعيان الفقهاء إنما تميزوا لقيامهم بفن الحديث. وانظر إلى أئمة المذاهب مثل الشافعي وأبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل وأبي داود الظاهري والثوري والأوزاعي وسعيد بن المسيب رضي الله عنهم تجدهم من كبار المحدثين.

ويقال: إن سبب وضع أبي حنيفة الفقه وتدوينه أنه كان في عصره اثنان حضرا إلى الحمام وأودعا صاحبه وداعة لها صورة، ودخلا الحمام. ثم إن أحدهما خرج وطلب الوداعة وأخذها وراح في سبيله. فلما خرج الآخر طلبها من الحمامي فقال له: إن صاحبك خرج وأخذها، فراح إلى الحكام في ذلك الزمان وشكاه إليهم فألزموه بالقيام بها للغريم الحاضر وقالوا له: أنت فرطت، وكان الواجب أن لا تدفع الوداعة إلا إليهما معا كما أودعاك معا ، فبقي ذلك الرجل في حيرة لا يدري ما يصنع. فلقيه أبو حنيفة فسأله عن حاله لما رآه من الفكرة والحيرة، فأخبره بقضيته، فقال له: قل لغريمك: إن المال عندي، فأحضر لي صاحبك لأدفع الوداعة إليكما، فإذا أتى به حصلت على غريمك. فكان ذلك سبب خلاص الحمامي من تلك الورطة.

وعند ذلك أخذ أبو حنيفة في تدوين الفقه، وكانت المسألة المذكورة أول ما وضعه. وكذلك أصول الفقه، إنما كان يقوم به المجتهد العارف بما يحتاج إليه من العلوم في استنباط الحكم من الآية والحديث، ويكون عنده قوة ينظر بها في المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والحقيقة والمجاز، وصحة الحديث من ضعفه، وثقة رواته، وترجيح أحد الحديثين على الآخر إذا تساويا في الصحة بما يوافق القواعد ويستند إلى القياس الشرعي، ومثل هذا يحتاج إلى علوم جمة، فجاء الشافعي رحمه الله تعالى ووضع أصول الفقه وجمع ما كان منه مفرقا في العلوم من اللغة في معرفة المشترك والمتباين والمترادف، والحقيقة والمجاز، والاستعارة والكناية.

ومن النحو في معرفة الشرط والجزاء، والاستثناء المتصل والمنقطع، والعطف المرتب والعطف الذي لا يرتب، والذي للفور والذي للتراخي، وحروف الجر واختلاف معانيها وما ينقسم كل حرف إلى أنواعه، والأسماء المبهمة وغير ذلك.

ومن المنطق في معرفة دلالة المطابقة والتضمن والالتزام، ومعرفة الجنس والنوع، والفصل والخاصة والعرض العام، والمقدمتين والنتيجة والقياس المنتج، وغير ذلك مما يحتاج إليه الفقيه من قواعد الجدل ومعرفة المغالط، وما يحتاج إليه من معرفة صحة الحديث وضعفه وحسنه إلى غير ذلك. وجعله الشافعي رحمه الله تعالى علما قائما برأسه وإن كانت أجزاؤه مفرقة في العلوم. ثم إن الناس جاؤوا بعده وزادوا فيه ما أمكن من ذلك. فكذا علم المعاني والبيان، انتزع من النحو ودون وجعل فنا قائما برأسه.

 

حول توكيد الضميرين

قال: ولنقدم في ذلك قولا يحصره ويجمع أطرافه فنقول: إذا كان المقصود معلوما ثابتا في النفوس، فأنت بالخيار في توكيد أحد الضميرين بالآخر وإذا كان غير معلوم وهو مما يشك فيه فالأولى حينئذ أن توكد أحد الضميرين بالآخر في الدلالة لتقرره وتثبته. فمما جاء من ذلك قوله تعالى: "قالوا يا مُوسى إمّا أن تُلقِي وإمّا أَنْ نكونَ نَحنُ المُلْقِين" فإن إرادة السحرة للإلقاء قبل موسى لم تكن معلومة عنده، ولأنهم لم يصرحوا بما في أنفسهم وطول في الكلام على ذلك.

أقول: ظهرت فائدة ما قررته أنا من أن المعاني والبيان جزء من النحو، وإذا خرجا عن القواعد النحوية، خبط قائلهما عشواء. والدليل على ذلك أنه قرر في القاعدة التي له أن المعنى إذا كان ثابتا في النفس، فأنت مخير في تأكيد أحد الضميرين بالآخر وليست هذه القاعدة على الإطلاق، فإن التأكيد هو التكرار، ومن شرطه أعني التكرار أن يتم المعنى بدونه مثل: ضربت زيدا زيدا ، وجاءني زيد زيد، وأنت أنت الفاضل، وهو هو الجواد. فكل هذه الصور يجوز حذف التأكيد فيها لأن المعنى يتم بدونه.

وقد وجدنا الضمير يتكرر ولا يجوز حذفه، كقوله تعالى: "وقلنا يا آدم اسكُن أنت وزوجُك الجنّة". وقوله تعالى: "فاذهبْ أنتَ وربُّك فَقاتِلا"، لأن أفعال الأمر نحو: قم واقعد واسكن كلها يتحمل الضمير ولا يجوز إظهاره، لأن التقدير: قم أنت، واسكن أنت، ولهذا حكم النحاة على أفعال الأمر بأنها كلام لأنها تركبت من فعل وفاعل.

ألا ترى أنهم أوردوا على الشيخ جمال الدين بن الحاجب رحمه الله تعالى في قوله: الكلمة لفظ وضع لمعنى مفرد، الضمائر المستكنة في أفعال الأمر جميعاً وقالوا: هي كلمات ولم يلفظ بها اللسان. حتى إن الشيخ بدر الدين محمد بن مالك رحمه الله تعالى قال: الكلمة لفظ بالقوة أو الفعل فاحترز بقوله بالقوة من مثل الضمائر التي تتحملها أفعال الأمر، ولهذا فسر بعضهم اللفظ فقال: اللفظ ما يطرحه اللسان أو في حكمه حتى يخلص حد ابن الحاجب.

وإذا تقرر هذا فأقول: إن أنت في قوله تعالى: "اسكن أنت" ضمير آخر بارز غير الضمير المستكن في اسكن، وتقديره: اسكن أنت أنت وزوجك. ومع ذلك فلا يجوز أن يحذف الضمير الظاهر ها هنا لأنه لا يجوز عطف زوجك على الضمير المستتر، لضعف ما هو بالقوة بالنسبة إلى ما هو بالفعل. وهذا بخلاف قوله تعالى: "وإِمّا أن نكون نحنُ المُلقين". فثبت أن صاحب المعاني إذا لم يعرف النحو، لم يدر ما يقوله.

ويمكن أن يجاب عنه ويعتذر له فيقال: إنه إنما يتكلم في التوكيد، وقوله تعالى: "اسكن أنتَ وزوجُك" ليس هو من باب التوكيد، إنما أتى به لأمر آخر وهو عدم الجواز في العطف على المضمر المستكن، وهذا غير التوكيد.

قلت: وعلى كل حال، فهي عبارة مدخولة غير سادة، تحتاج إلى قيد يخرج مثل هذا، وإلا ورد على قاعدته التي قررها، فإن القواعد تحتاج إلى أن تكون محكمة غير موهمة.

 

ابن الأثير يناقش المتنبي في بعض شعره

قال في النوع الثامن من استعمال العام في النفي، والخاص في الإثبات: وقد أغفل كثير من الشعراء ذلك، من جملتهم أبو الطيب حيث يقول:

يا بدر يا بحر يا غمـامة يا  ليث الشرى يا حمام يا رجل 

فإنه إذا فعل ذلك، كان كالمرتفع من محل إلى محل أعلى منه، وإذا خالفه كان كالمنخفض من محل إلى محل أدنى منه.

فأما قوله: يا بدر فإنه اسم الممدوح والابتداء به أولى، ثم يجب أن يقول بعده: يا رجل يا ليث يا غمامة يا بحر يا حمام لأن الليث أعظم من الرجل، والغمامة، أعظم من الليث والبحر أعظم من الغمامة، والحمام أعظم من البحر.

أقول: قد ناقشه ابن أبي الحديد، وقال كلاما أذكر ملخصه، وهو أن المتنبي قصد مقصدا صالحا لأنه ابتدأ بالبحر وهو دون الغمامة، لأن البحر هنا هو الذي يورد وهو مثل الغدير والنهر لا البحر الملح، فإن ذلك استقص كلي، والأنهار والغدران يتفرعا عن الغمامة، ثم انتقل فقال: يا ليث الشرى وانتقل منه إلى الحمام لأنه أعلى من الليث، لأنه لولا الحمام لم يرهب الليث. ولذكر الجود أولا قال يا بحر، ولذكر الشجاعة ثانيا قال يا ليث، وقدم الجود لأن حاجة جمهور الناس إلى الجود أكثر من حاجتهم إلى الشجاعة، انتهى، هذا ملخص كلام ابن أبي الحديد، وهو لعمري تأويل حسن، كونه عكس على ابن الأثير مقصده وجعل البيت من باب الانتقال من الأدنى إلى الأعلى، وغالب الناس طعن في البيت كما طعن ابن الأثير.

قلت: وللناس فيه تأويل آخر، وهو أنه لا يلزمه الانتقال من الأدنى إلى الأعلى فيما قصده، لأنه أراد وصفه بالمدح الذي ادعاه فيه قبل. وقال: يا بدر اسمه، ثم قال يا بحر، فإن لم أصدق فيما أقوله فيا غمامة، فإن لم أصدق فيا ليث، فإن لم أصدق فيا حمام لأنك تعدم نفوس أعدائك الحياة، فإن لم أصدق فيا رجل، جمع هذه الأوصاف التي ذكرتها، على أن هذا التأويل ليس في قوة ما ذكره ابن أبي الحديد ولا في حسنه.

وابن الأثير ادعى أن الحمام أكبر من البحر وأعلى ولم يبين وجه ذلك، والذي أقوله في ذلك: لأن الموت عبارة عن عدم الحياة، والبحر عبارة عن وجود الماء الكثير الغمر، والعدم أعم من الوجود، فهو أعلى منه بهذا الاعتبار ومقدم عليه. ومن هذا قوله تعالى: "الحمدُ لِلّه الذي خلَقَ السّمواتِ والأرضَ، وجعلَ الظُّلماتِ والنُّور". قيل: إنه قدم الظلمات على النور، لأن الظلمة عبارة عن عدم النور، والعدم مقدم على الوجود. ولولا هذا التأويل في هذه الآية الكريمة، لكان قول المتنبي: يا بدر يا بحر البيت من هذا الباب.

ويشكل على من قرر أنه لا ينتقل إلا من الأدنى إلى الأعلى، وبهذه القاعدة التي قرروها تمسك من فضل الملائكة على الأنبياء وقال: إن الله تعالى انتقل من الأدنى إلى الأعلى في قوله تعالى: "لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لِلّه ولا الملائكةُ المُقَّربون" فإن الحكيم لا ينتقل من الأعلى إلى الأدنى، ولا يقول البليغ: لا أفكر في السلطان ولا في الوزير بل يقول: لا أفكر في الوزير ولا في السلطان.

والصحيح الذي ذهب إليه علماء السنة، أن الأنبياء أفضل من الملائكة إلا من شذ منهم مثل: القاضي أبي بكر الباقلاني، وأبي عبد الله الحليمي.

وقوله: ومثل جدودها في عيون الأعداء شيئاً عجابا ، هذا كلام فارغ كالجسد الذي لا روح فيه.

وقوله: وأراهم في اليقظة إرهابا وإرعابا ، وفي المنام إبلا صعابا ، تقود خيلا عرابا ، أصل هذا المعنى لأشجع السلمي.

وعلى عدوك يا بن عم محـمـدٍ  رصدان: ضوء الصبح والإظلام 

فإذا تنبّـه رعـتـه وإذا غـفـا  سلّت عليه سـيوفـك الأحـلام

وما زان سجعته الثانية إلا تضمينه السجع الذي جاء في رؤية الموبذان ليلة ولد النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء في ذلك من كلام سطيح.

وابن الأثير احتفل لهاتين السجعتين، وأراد مماثلة القاضي الفاضل في دعاء الكتاب الذي كتبه في فتح القدس. ومنه: ولا زالت غيوث فضله إلى الأولياء أنواءً إلى المرابع وأنوارا إلى المساجد، وبعوث رعبه إلى الأعداء خيلا إلى المراقب وخيالا إلى المراقد.

وأنت أيها الواقف على هذه الأوراق حكم بين هذين الخصمين، وبيدك الأمر في الفرق بين الكلامين:

فمن استحقّ الاتقاء فـرقّـه  ومن استحطّ فحطّه في حشه 

وإن كان هواي مال بي إلى كلام الفاضل.

فلله ابن سناء الملك حيث قال:

إني رأيت البدر ثم رأيتـهـا  ماذا عليّ إذا عشقت الأحسنا 

ثم قال: وهي فتح القدس الذي تفتحت له أبواب السماء، وكثرت بأحاديث مجده كواكب الظلماء، واسترد حق الإسلام وطالما سعت الهمم في طلبه بالزاد والماء.

وأي همم هذه، وما عسى أن تناله إذا لم يكن معها إلا الزاد والماء. أما كان لها مهم غير الزاد والماء، ولا لها فكرة غير ذلك ? وهمة لا يكون همها الخيل والرجل والسلاح والدأب والسرى وركوب الأخطار، وقطع المفاوز، والصبر على السهر وأنواع المشاق، أي شيء تناله..

ثم قال: ومن أحسن ما أتى به أنه آنس قبلته الثانية بقبلته الأولى.

أقول: المليح النادر في هذا، ما ورد في خطبة القاضي محيي الدين ابن الزكي رحمه الله تعالى وهو على المنبر في أول جمعة أقيمت في القدس: ومسجدكم هذا أول القبلتين، وثاني الحرمين، وثالث المسجدين...

واستعمل العماد الكاتب ذلك أيضاً في كتاب كتبه إلى ديوان الخلافة بفتح القدس أيضاً ، فقال وقد ذكر الصخرة: فصافحت الأيدي منها موضع القدم، وتجدد لها من البهجة والرسالة ما كان لها في القدم، فهو ثاني المسجدين بل ثالث الحرمين.

ثم قال: وكان قد برز من السلاح في لباس رائع من المنعه، وأخرج من السواد الأعظم ما خدع العيون والحرب خدعه.

أقول: أكذا يكتب عن مثل ملك عانى من الأهوال ما عانى، وكابد ما كابد، وبذل نفسه وولده وأهله وماله وعساكره، حتى استنقذ مثل القدس من مثل الفرنج.. وهو يريد أن يمت إلى الخليفة بهذه اليد، ويعظم الأمر ويفخمه، ويصف الشدائد التي كابدها حتى صار هذا الفتح العظيم في أيام الخليفة، وانضاف إلى ملكه ودخل في قبضته. ويقال: خدعهم بالسواد الأعظم والحرب خدعة. ليس هذا بلائق في هذا المقام.

ثم قال: وما تمنع رقاب البلاد بكثرة السواد، ولا تحمى بعوالي الأسوار بل بعوالي الصعاد.

أقول: كان الأحسن أن لو قال: وما تمنع رقاب البلاد بكثرة السواد، بل ببياض الرأي وكثرة السداد.

على أن هذا الكتاب الذي أورده ابن الأثير رحمه الله في معارضة الفاضل من أجل ما أنشاه، وأحسن ما وشاه. وإنما سبب ذلك كونه عارضه به معارضه، وأخذ محاسنه من المهلة والتأني مقارضه، فلهذا جاء منقحا وزهره مفتحا . ولو أنه أخذ درجاً، والقاضي الفاضل درجا وقعدا في مكان واحد، وأخذا في العمل على غير مثال، لبان المجلي في الحلبة من الفسكل، كما اقترح السلطان المعز على ابن رشيق وابن شرف القيرواني أن ينظما في الشعر الدقيق الذي على ساق بعض النساء ويمدحاه لكونه يستحسنه ويعيبه بعض الضراير. وقال: أريد أن يكون ذلك حجة لها على من يعيبها. فانفرد كل واحد منهما ونظما في الوقت. فكان الذي أتى به ابن شرف:

وبلقيسيّةٍ زينـت بـشـعـرٍ  يسيرٍ مثل ما يهب الشحـيح

حكى زغب الخدود وكلّ خـدٍّ  به زغب فمعشوقٌ مـلـيح

فإن يك صرح بلقيس زجاجـا  فمن حدق العيون لها صروح 

وكان الذي أتى به ابن رشيق:

يعيبـون بـلـقـيسـيةٍ إذ رأوا بـهـا  كما قد رأى من تلك من نصب الصرحا 

وقد زادها التزغيب ملحا كمـثـل مـا  يزيد خدود المرد تزغيبهـا مـلـحـا

فاستحسن المعز أبيات ابن شرف وعاب قول ابن رشيق وقال: لقد أوجدت خصمها حجةً بقولك يعيبون، فإن بعض الناس عاب ذلك. وهذا نقد حسن.

وانظر إلى هذين الشاعرين كيف نطقا بلسان واحد، عن رؤية واحدة، ومعنى واحد، وقافية واحدة.

ولا بأس بإثبات شيء من كتاب القاضي الفاضل في الفتح المذكور. ولولا خوف الإطالة لأثبت الكتابين برمتهما، ولكن يؤخذان من مكانيهما.

قال القاضي الفاضل رحمه الله تعالى: أدام الله أيام الديوان العزيز، ولا زال مظفرا بكل جاحد، غنيا بالتوفيق عن رأي كل رائد، موقوف المساعي على اقتناء مطلقات المحامد، مستيقظ النصر والسيف في جفنه راقد، وارد سحاب الجود والسحاب على الأرض غير وارد، متعدد مساعي الفضل وإن كان لا يلقى إلا بشكر واحد، ماضي حكم العدل بعزم لا يمضي لسل غوي وريش راشد، ولا زالت غيوث فضله إلى الأولياء أنواءً إلى المرابع وأنوارا إلى المساجد، وبعوث رعبه إلى الأعداء خيلا إلى المراقب وخيالا إلى المراقد.

منه: ولله في إعادة شكره رضى، وللنعمة الراهنة دوام لا يقال معه هذا مضى، وقد صارت أمور الإسلام إلى أحسن مصائرها، وقد استتبت عقائد أهلها على بصائرها، وتقلص ظل الكافر المبسوط، وقد صدق الله أهل دينه فلما وقع الشرط وقع المشروط، وقد كان الإسلام غريبا فهو الآن في وطنه، والفوز معروضا وقد بذلت الأنفس في ثمنه، وجاء أمر الله وأنوف الشرك راغمة، وأدلجت السيوف والآجال نائمة، وصدق الله وعده في إظهار دينه على كل دين، واستطارت له أنوار أبانت أن الصباح عندها جبان الجبين، واسترد المسلمون تراثا كان عنهم آبقا ، فظفروا منه يقظة بما لم يصدقوا أنهم يظفرون به طيفا على النأي طارقا ، واستقرت على الأعلى أقدامهم، وخفقت على الأقصى أعلامهم، وتلاقت على الصخرة قبلهم، وشفيت بها وإن كانت صخرة كما تشتفي بالماء غللهم. ولما قدم الدين عليها عرف منها سويداء قلبه، وهنأ كفؤها الحجر الأسود ببت عصمتها من الكافر بحربه، فلله الحمد على أن أحرمت بخلع ذلك البنيان المخيط، وطهرها ما قطر من دعم الكفر وما كان ليطهرها البحر المحيط، وكان الخادم لا يسعى سعيه إلا بهذه العظمى، ولا يقاسي تلك البؤس إلا لهذه النعمى، ولا يحارب من يستظلمه إلا لتكون الكلمة مجموعة وكلمة الله هي العليا، وليفوز بجواهر الآخرة لا بالعرض الأدنى من الدنيا. ومن طلب خطيرا خاطر، ومن رام صفقةً رابحةً خاسر، ومن سما لأن يجلي غمرة غامر.

منه لما ذكر الخلفاء لا جرم أنهم ورثوا سرهم وسريرتهم خلفهم الأطهر، ونجلهم الأكبر، وبقيتهم الشريفة، وطليعتهم المنيفة، وعنوان صحيفة فضلهم، لا عدم الإسلام سواد القلم وبياض الصحيفة.

منه: والشرق يهتدي بأنواره، بل إن بدا نور من ذاته هتف الغرب بأن واره، فإنه نور لا تكنه أغساق السدف، وذكر لا تواريه أوراق الصحف.

منه وقد ذكر الكفر: ونام سيف جفنه وكانت يقظته تريق نطف الكرى من الجفون، وجدعت أنوف رماحه وطالما كانت شامخة بالمنى راعفة بالمنون، وأصبحت الأرض المقدسة الطاهرة وكانت الطامث، والرب المفرد الواحد وكان في زعمهم الثالث.

منه: وبدل الله مكان السيئة الحسنه، ونقل بيت عبادته من يد أصحاب المشأمة إلى أصحاب الميمنة.

منه: فكم أهلة سيوف تقارضها الضراب حتى عادت كالعراجين، وكم أنجم قنا تبادلت الطعان حتى صارت كالمطاعين، وكان اليوم مشهودا والملائكة شهودا ، وكان الصليب صارخا والإسلام مولودا ، وكانت ضلوع الكفار لنار جهنم وقودا .

منه وقد ذكر القومص وفراره: وكان مليا يوم الظفر بالقتال ويوم الخذلان بالاحتيال، فنجا ولكن كيف، وطار خوفا من أن يلحقه منسر الرمح وجناح السيف، وكان لعدتهم كذلك، وانتقل من ملك الموت إلى مالك. وبعد الكسرة مر الخادم على البلاد فطواها بما نشر عليها من الراية العباسية السوداء صبغا البيضاء صنعا ، الخافقة هي وقلوب أعدائها، هي وعزائم أوليائها، المستضاء بأنوارها إذا فتح عينها البشر، وأشارت بأنامل العذبات إلى وجه النصر.

منه: ويحصد كفرا ويزرع إيمانا ، ويحط من جوامعها صلبانا ويرفع أذانا ، ويبدل المذابح منابر والكنائس مساجد، ويبوىء أهل القرآن بعد أهل الصلبان للقتال مقاعد، ويقر عينه وعين أهل الإسلام أن تعلق النصر منه ومن عسكره بجارٍ ومجرور، وأن يظفر بكل سور ما كان يخاف زلزاله وزياله إلى يوم النفخ في الصفح.

منه: وقبالها ثم قاتلها، ونزل إليها ثم نازلها، وبرز لها ثم بارزها، وحاجزها ثم ناجزها، فضمها ضمةً ارتقب بعدها الفتح، وصدع جمعها فإذا هم لا يصبرون على عبودية الحد عن عتق الصفح.

منه: وقدم المنجنيقات التي تتولى عقوبات الحصون عصيها وحبالها، وأوتر لهم قسيها التي تضرب ولا تفارق سهامها نصالها، فصافحت السور فإذا سهمها في ثنايا شرفاتها سواك، وقدم النصر نسرا من المنجنيق يخلد إخلاده إلى الأرض ويعلو علوه إلى السماك، فشج مرادغ أبراجها، وأسمع صوت عجاجها، فأخلى السور من السيارة، والحرب من النظارة، وأمكن للنقاب أن يسفر للحرب النقاب، وأن يعيد الحجر إلى سيرته من التراب، فتقدم إلى الصخر فمضغ سرده بأنياب معوله، وحل عقده بضربه الأخرق الدال على لطافة أنمله، وأسمع الصخرة الشريفة حنينه واستغاثته إلى أن كادت ترق لمقتله، وتبرأ بعض الحجارة من بعض، وأخذ الخراب عليها موثقا فلن يبرح الأرض، وفتح من السور بابا سد من نجاتهم أبوابا ، وأخذ يفت في حجره فقال الكافر يا ليتني كنت ترابا .

منه في تسلم البلد: وملك الإسلام خطة كان عهده بها دمنة سكان، فخدمها الكفر إلى أن صارت روضة جنان، لا جرم أن الله تعالى أخرجهم منها وأهبطهم، وأرضى أهل الحق وأسخطهم.

منه: وفيها كل غريب من الرخام الذي يطرد ماؤه، ولا ينطرد لألاؤه، قد لطف الحديد في تجزيعه، وتفنن في توسيعه، إلى أن صار الحديد الذي فيه بأس شديد، كالذهب الذي فيه نعيم عتيد، فما ترى إلا مقاعد كالرياض بها من بياض الترخيم رقراق، وعمدا كالأشجار لها من التنبيت أوراق.

منه: وأقيمت الخطبة وكادت السموات ينفطرن للسجوم لا للوجوم، والكواكب تنتثر للطرب لا للرجوم، ورفعت إلى الله كلمة التوحيد وكانت طريقها مسدودة، وطهرت قبور الأنبياء وكانت بالنجاسات مكدودة، وأقيمت الخمس وكان التثليث يقعدها وجهرت الألسنة بالله أكبر وكان سحر الكفر يعقدها، وجهر باسم أمير المؤمنين في موطنه الأشرف من المنبر، فرحب به ترحيب من بر بمن بر، وخفق علماه في خافقتيه فلو طار سرورا لطار بجناحيه.

منه: وكل مشقة بالإضافة إلى الفتح محتملة، وأطماع الفرنج بعد ذلك غير مرجئة ولا معتزلة، فإن يدعوا دعوةً يرجو الخادم من الله أن لا تسمع ولن يفكوا أيديهم من أطواق البلاد حتى تقطع، ولهذه البشائر أخبار لا تكاد من غير الألسنة تتشخص، ولا بما سوى المشافهة تتلخص، فلذلك نفذ فلانا شارحا ، ومبشرا صادحا ، يطالع بالخبر على سياقته، ويعرض جيش المسرة من طليعته إلى ساقته. وهو فلان.

وقال من كتاب آخر عند ذكر الصخرة: فقد كان بخت الناصر في رد القدس أمضى من سيف بخت ناصر.

وذكرت هنا أبيات الصاحب جمال الدين ابن مطروح رحمه الله وهي:

المسجد الأقصى له عـادةٌ  سارت فصارت مثلا سائرا 

إذا غدا للكفر مستوطـنـا  أن يبعث الله له نـاصـرا

فنـاصـرٌ طـهّـره أولا  وناصرٌ طـهّـره آخـرا

رجع إلى كلام الفاضل:   

منه: وكان الكفر حل بهذا البلد فملكه واستهلكه، وأغلقه فأوثقه، وضاعت مفاتيحه من الإسلام فلم يجدها إلا في زمان أمير المؤمنين وهي السيوف، وما كان يضرب في فنائه للحرب مصاف حتى ضربت في مسجده للصلاة صفوف فاسترجع الصخرة التي هي فص خاتم الإسلام كما استرجع بها سليمان قدما خاتمه، وكان وكيل الإسلام في استرجاع خاتمه صارمه آخر كلام الفاضل رحمه الله تعالى.

وهذا بديهٌ لا كتحـبـير قـائلٍ  إذا ما أراد القول زوّره شهرا 

وقد أتبع ابن الأثير رحمه الله كتاب فتح القدس بتقليد حسبةٍ، أطال فيه وليس في عقده واسطة، ولا في أثنائه نكتة تكون بينها وبين التعجب رابطة، لكنه استوعب آداب الحسبة وعددها، ورصع وصاياها في سلكه ونضدها وأطال في نصها لما سردها، وأظهر فيه العلم لا لطف العمل، وأتى به عريا عن المحاسن فلا رغبة فيه للمنشىء الماهر ولا أمل، وهو بأن يكون جزءا في آداب الحسبة أحق منه بأن يكون في التقاليد معدودا، وبأن يضم إلى الكتب الموضوعة لذلك أولى منه بأن يكون في جملة الإنشاء مسرودا.

 

ورود أن بعد لما وأثرها في الدلالة على تراخي الزمن

قال في النوع السابع عشر في التكرير، وقد ذكر دخول أن التي ترد بعد لما وادعى أنها إذا دخلت في الكلام دل على أن الفعل لم يكن على الفور، وأنه ثم تراخ ومهلة. وساق قوله تعالى: "فلمّا أنْ جاءَ البشيرُ القاهُ على وَجههِ فارتَدَّ بصيرا".

وإذا نظر في قصة يوسف مع إخوته منذ ألقوه في الجب وإلى أن جاء البشير إلى أبيه عليه السلام، وجد أنه كان ثم إبطاء وتراخ بعيد بعيد، ولو لم يكن ثم مدة بعيدة وأمد متطاول، لما جىء بأن بعد لما وقبل الفعل. بل كانت تكون الآية: فلما جاء البشير ألقاه على وجهه. وهذه دقائق ورموز لا توجد عند النحاة لأنها ليست من شأنهم.

أقول: هذا من جناية إعجاب المرء بعقله ورأيه، ألا تراه كيف تصور الخطأ صوابا ، ثم أخذ يتبجح بأنه ظفر بما لم يفهمه النحاة ولا يعلوه: أتراه ما نظر إلى هذه الفاء التي هي للتعقيب عقيب ماذا وردت. هل وردت عقيب قوله تعالى: "فلما ذهبوا به وأَجمَعوا أنْ يجعلوه في غَيابَةِ الجُبّ".. والآيات المتعلقة بواقعة إلقائه في الجب حتى يدعي هذه الدعوى. أو وردت عقيب قوله تعالى: "اذهَبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأتِ بصيرا وأْتوني لأجِدُ ريحَ يُوسفَ لولا أَنْ تُفنِّدونِ. قالوا: تالله إنك لفي ضلالِك بأهلِكُم أَجمعين" إلى قوله تعالى: "ولما فَصَلتِ العِيرُ قال أَبوهم: إني القَديم. فلمّا أنْ جاء البشير" الآيات. فأي تراخ بين هذين من البعد البعيد والمدة المتطاولة ? إنما كان ذلك كله بقدر المسافة من مصر إلى أرض كنعان، مقام يعقوب عليه السلام، وهي تكون اثني عشر يوماً وما حولها، ولهذا قال النحاة: إنها هنا زائدة.

قال في هذا النوع أيضاً وقد أورد قول أبي نواس:

أقمنا بها يوماً ويوما وثالثـا  ويوما له يوم التّرحّل خامس 

مراده من ذلك أنهم أقاموا أربعة أيام. ويا عجبا له، يأتي بمثل هذا البيت السخيف الدال على العي الفاحش في ضمن تلك الأبيات.

أقول: ليس الأمر كما ادعاه من أنه أراد أنهم أقاموا أربعة أيام، بل قد ذهب بعض المتأدبين إلى أن المقام كان سبعة أيام، بدليل أنه أقام يوماً ويوما وثالثا فهذه ثلاثة أيام. ثم قال: ويوما له يوم الترحل خامس فزاد الثلاثة أربعة أخر خامسها يوم الرحيل. وما يشك صاحب الذوق أن هذه العبارة أحسن من قوله: أقمنا بها أسبوعا ، وإن كان هذا أخصر في اللفظ، ولكن ذلك له موقع.

سلمنا أن المقام أربعة أيام، ولكنه كرر ذلك لمعنى لم يوجد إلا في هذا التكرار، وهو أن المقام في هذه الحالة مقام وصف لأيام قطعها في لذة، فأخذ يعددها أفرادا غير جملة ويقول: أقمنا بها يوماً ويوما ويوما كالمتلذذ بهيئة كل يوم استحضرها في ذهنه، وما مر لهم فيها من أنواع اللذاذات والمسرات، وهذا أمر متعارف في الخير والشر فيقال: واصلني يوماً في يوم في يوم في يوم، وهجرني يوماً في يوم في يوم في يوم. ومن هذا قول مروان الأصغر:

سقى الله نجدا والسّلام على نجد  ويا حبذا نجدٌ على النأي والبعد

كرر ذلك تلذذا بذكرها، وتحرقا بالشوق إليها.

ولله المتنبي حيث قال:   

أبا شجاعٍ بفارس عضد الدّ  ولة فنّاخسرو شهنشاهـا

أساميا لم تزده مـعـرفةً  وإنما لـذّةً ذكـرنـاهـا

?حول الاعتراض قال في النوع الثامن عشر في الاعتراض بعدما أورد قول المضرب السعدي:

فلو سألت سراة الحي سلمى  على أن قد تلوّن بي زماني 

لخبّرها بنو أحساب قومـي  وأعدائي فكلٌ قد بـلانـي

ومن ذلك قول أبي تمام الطائي:

وإنّ الغنى لي إن لحظت مطالبي  من الشعر إلاّ في مديحك أطوع

أقول: أي شيء رآه في قول أبي تمام حتى يجعله منخرطا في قول المضرب السعدي ?، وأنا لا أعيب البيت من حيث معناه فإنه في غاية الحسن، وإنما أعيبه من حيث تراكيب ألفاظه فإنها بين تقديم وتأخير ضيعا بهجة المعنى وأذهبا طلاوته، ألا ترى أنه يحتاج إلى تقدير وهو: وأن الغنى أطوع لي من الشعر إلا في مدائحك إن لحظت مطالبي. فالمعنى في نفسه في غاية الحسن من البلاغة، والألفاظ ما كأنها إلا عقد الميزان، أو التخطيط الذي يكون في منامات الباذنجان. وما أشبه هذا البيت إلا بقول الفرزدق:

وما مثله في الناس إلا مملّكا  أبو أمه حيٌّ أخوه يقاربـه

ومثل قول أبي تمام قول شرف الدين بن الفارض:

هبي قبل يفني الحبّ مني بقيةً  أراك بها لي نظرة المتلفّـت

والتقدير فيه: هبي لي نظرة المتلفت قبل أن يفني الحب مني بقية أراك بها.

 

حول الكناية

قال في النوع التاسع عشر في الكناية وقد أورد قوله تعالى "أيحِبُّ أحدُكم أنْ يأكلَ لحمَ أَخيه مَيتا" الآية: فأما جعل الغِيبة كأكل الإِنسان لحمَ الإِنسان الآخر، فشديد المناسبة، لأنّ الغِيبة إنما هي ذكرُ مثالب الناس وتمزيق أعراضهم، وتمزيق العرض مماثل لأكل لحم من تغتابه، لأن أكل اللحم تمزيق على الحقيقة.

أقول: دعواه أن مناسبة الغيبة بأكل لحم الإنسان لأنها تمزيق عرض والتمزيق أكل، ليست بواضحة فإن تمزيق العرض من باب أكل اللحم، وهما كناية عن أمرين معقولين بأمرين محسوسين. والأحسن في مثل هذا أن يقال: لأن الذي يغتاب يذكر مثالب وارتكاب محرمات وغيرها مما يجب فيها على المغتاب الحد، ولعل ذلك الحد يكون ضرب عنق أو قطع يد أو جلد ظهر، وذلك تفصيل أعضاء وتمزيق أجزاء، فهو أشبه شيء بالأكل، لأن الأكل يفرق الأجزاء من الأجسام. ألا ترى قول السراج الوراق ما أحسنه في هذا المعنى:

وربّ شخصين قطّ ما اجتمعا  إلاّ على هرت غائبٍ فهمـا

ما مرّ يومٌ إلاّ وعنـدهـمـا  لحم رجالٍ أو يولغان دمـا

مضمن.

وهذا التعليل أنسب، وبه يعلل تمزيق العرض أيضاً فأما قوله كتمزيق العرض، فإنه أحال على أمر يحتاج إلى بيان، وينتقل السؤال من الغيبة إليه، وبمثل هذه المناسبة التي ذكرتها أنا، لا يحتاج إلى ذلك.

قال في هذا النوع: وأما القسم المختص بما يقبح ذكره من الكناية، فإنه لا يحسن استعماله لأنه عيب في الكلام فاحش وذلك لعدم المراد من الكناية فيه. فمما جاء منه قول الشريف الرضي يرثي امرأة:

إن لم تكن نصلا فغمد نصال

أقول: أما هذه الكناية فإنها في غاية الحسن في كون المرأة يغمد فيها ذلك العضو المخصوص وليس في بابها مثلها ولا تقبح من حيث الصناعة وتخيل المعنى. وإنما قبحها بالإضافة إلى المقام، إن كان المقام مقام تعظيم قدر المرثي، لأنها أم ملك أو بنت كبير القدر، أو أخت أمير. فإنه ليس من الأدب أن يسمع فيها قريبها هذه الكناية لتعلقها بفرجها وذكر عورتها. كما عيب على أبي الطيب قوله يرثي أم سيف الدولة:

رواق العزّ فوقك مسبطرّ  وملك عليّ ابنك في كمال 

فإنه ليس من الأدب أن يذكر أم السلطان ويقال: فوقها ممتد، فإن النفوس الكبار تأنف من ذكر عورات النساء.

ويقال: إن بعض الولاة أحضر إليه جماعة من الفساق، فأراد تأديبهم، فجعلوا يقسمون عليه ولا يزداد عليهم إلا قسوة وغلظة، وكان فيهم مخنث فقال: تنحوا يا حمير، أكذا يحلف الأمير ثم قال: يا أمير بحياة أمك، فاشتد غضبه عليه وهم يجلدونه، فقال: بحياة وجهها، بحياة عنقها، بحياة كذا بحياة كذا حتى قال: بحياة سرتها. فقال الأمير وليس بعد السرة إلا الحرة. أطلقوهم.

وما أحسن قول كشاجم يرثي أمه:   

فأُقسم لو أبصرتني عند مـوتـهـا  وجفني يسحّ الدّمع سجلا على سجل 

رثيت لنصلٍ يأخذ الموت جـفـنـه  وأُعجبت من فرعٍ ينوح على أصل

وقد تحسن هذه الكناية من الشريف الرضي في باب التهكم وتكون نهاية في الحسن. وعلى الجملة فقبح الكناية التي ذكرها ليس لذاتها بل لأمر عرض عليها على أنه قد أورد بعدها قول الفرزدق يرثي امرأته:

وجفن نصالٍ قد رزئت فلم أنح  عليه ولم أبعث عليه البواكـيا

وقال: هذا حسن بديع في بابه، وما كني عن امرأة ماتت بجمع أحسن من هذه الكناية ولا أفخم شأنا .

فيقال له: أي شيء حسن هذه وقبح تلك ?

 

حول المغالطات المعنوية

قال في النوع العشرين في المغالطات المعنوية: فمنه ما كتبته في فصل من كتاب عند دخولي إلى بلاد الروم أصف فيه البرد والثلج: ومن صفات هذا البرد أنه يعقد الدر في خلفه، والدمع في طرفه، ولربما تعدى إلى قليب الخاطر فأحقه أن يجري بوصفه، والأرض شهباء غير أنها حولية لم ترض، ومسيلات الجبال أنهار غير أنها جامدة لم تخض.

أقول: ثم إنه أخذ يصف مكان الحسن في قوله: حولية ولم ترض. وأي كبير حسن في هذا حتى يدونه ويستشهد به. ولكنه معذور إذا وقع في كلامه تورية أن يخطب لها، فكيف به لو قال مثل القاضي الفاضل يصف البرد: في ليلة جمد خمرها، وخمد جمرها، إلى يوم تود البصلة لو ازدادت إلى قمصها، والشمس لو جرت النار إلى قرصها.

وقد نظم هذا الجلال بن الصفار فقال:

ويوم قرٍّ بـرد أنـفـاسـه  تمزق الأوجه من قرصها

يومٌ تودّ الشمس من بـرده  لو جرّت النار إلى قرصها 

ومن كلام الفاضل في ليلة كثيرة البرد: في ليلة جمد الماء في لبابيدها حتى ثقل متنها، وانعكست القاعدة في التشبيه حتى صار كالجبال عهنها.

وقال الصاحب جمال الدين ابن مطروح:

انظر تجد وجه البسيطة أبيضا  لم تبد فـيه شـامةٌ سـوداء

كرم السّحاب فعمّ بالثلج الثّرى  إنّ الكريم له اليد البـيضـاء

وقال: مجير الدين محمد بن تميم:

دنياك مذ وعدت بأنك لم تزل  في نعمةٍ وسعادةٍ لا تنقضي 

كان الدليل على وفاها أنهـا  أضحت تقابلنا بوجهٍ أبيض

وقال مجير الدين أيضاً في البرد:

وليلةٍ قرةٍ قد هبّ فيهـا  نسيمٌ لا تقابله الصـدور

نسيمٌ يقشعرّ الرّوض منه  إذا وافى ويرتعد الغدير

ثم قال: ومن ذلك ما ذكرته في وصف كريم فقلت: ولقد نزلت منه بمهلبي الصنع، أحنفي الأخلاق، ولقيته فكأني لم أرع بلوعة الفراق، ولا كرامة للأهل والوطن حتى أقول استبدلت به أهلا ووطنا ، وعهدي بالأيام وهي من الإحسان فاطمة فاستولدها بجواره حسنا ثم أخذ في الثناء على ذلك.

أقول: غاية ما ذكره أنه استعمل اسم فاطمة والحسن رضي الله عنهما تورية وليس هذا بعظيم.

وما أحسن ما استعمل القاضي الفاضل اسم الحسن، فقال يخاطب قوما أشرافا : السعيد من أشبه حديثه قديمه السعيد، والشرف القديم مقطوع إن لم يصله الشرف الجديد، والغصن من الدوحة العريقة وإن لم ينم كان من الحطب، ومحمد صلى الله عليه وسلم كان عمه أبا لهب، وقبيح أن يكون فعلكم القبيح وجدكم الحسن. وأن يكون أولكم قاتل حتى لا تكون فتنة وتقاتلون حتى تكون الفتن.

وما أحسن قول أبي الحسين الجزار يمدح سيف الدين علي بن قليج من جملة قصيدة في ذكر الزمان:

وإني لمعتادٌ لحمل خـطـوبـه  إذا كلّ أو أعيى من الهمّ حامله 

أقول لفقري: مرحبا لتيقّـنـي  بأنّ عليا بالمكـارم قـاتـلـه

كذا تكون التورية، وكذا يكون تحيل التخيل.

ومما اتفق لي نظمه:

أقول لشادٍ تـغـنّـى لـنـا  وقد قرّح الدّمع أجفان عيني 

ايا حسن الوجه رجّع وخـذ  بصوتٍ عليٍّ لنا في حسيني

ثم قال: ومن هذا الأسلوب ما كتبته في فصل من كتاب إلى بعض الإخوان فقلت: وعهده بقلمي وهو يتحلى من البيان بأسمائه، ويبرز أنوار المعاني من ظلمائه، وقد أصبحت يدي منه وهي حمالة الحطب، وأصبح خاطري أبا جهل بعد أن كان أبا لهب.

أقول: قد استعمل القاضي الفاضل مثل هذا كثيراً ، ولهج المتأخرون بمثل هذا فأتوا فيه بالطم والرم. قال ابن النبيه:

لو لم تكن إبنة العنقود ريقتـه  لما غدا خدّه القاني أبا لهـب

تبت يدا عاذلي فيه ووجنـتـه  حمالة الورد لا حمالة الحطب 

وقال ابن سناء الملك في معذر:

كنت مثل الظّبي ذا غـيدٍ  صرت مثل الثّور ذا غبب 

وجنةٌ كانت أبـا لـهـبٍ  رجعت حمّالة الحطـب

وقال:

وصفتك واللاّحي يعناد بالعذل  فكنت أبا ذرٍّ وكان أبا جهل

وقلت وأنا في رمل مصر عند العريش:

أتينا عريش الرّمل في وقت حرّه  فقلنا له تبّت يداك أبـا لـهـب

وكم أثلةٍ لا ظلّ فيها ولا جنـىً  تقابلنا منه بحمالة الـحـطـب

ثم قال من فصل: ومن آثر مساعيه أنه حاز قفل المكارم ومفتاحها، وإذا سئل منقبةً كان مناعها وإذا سئل موهبة كان مناحها، وأحسن أثرا من ذلك أنه أخذ بأعنة الصواب وألان جماحها، وإذا شهد حومة حربٍ كان منصورها وإذا لقي مهجة خطب كان سفاحها.

أقول: وهذا الباب أعني أسماء الخلفاء في الألقاب، مما جسر الناس على دخوله، وعبره كل أحد من المتأدبين وتصرف في محصوله، فإنه سلس القياد في التورية إذا جذب وسريع الارتفاع إذا أقيم أو نصب.

قال ابن سناء الملك:

بايعته يد الـسّـعـادة والـبـي  عة قد كررت علـيه الـيمـين

واصطفاه الرأي الرشيد على العا  لم فهو الأمـين والـمـأمـون

وقال سيف الدين المشد ابن قزل:

يا أهل ودّي دعوةً من مدنفٍ  خفيت شكايته عن العـوّاد

تالله ما جلدي عليكم طـائعٌ  كلاّ ولا والله قلبي الهـادي

وقال ابن سناء الملك:

بأبي وأمّي من يكون المكتفي  بجماله لجماله كالمقـتـدي

مستوحشٌ متفرّدٌ في حسنـه  لا تعجبنّ لوحشة المتفـرّد

وقال مجير الدين محمد بن تميم:

يا موثرا قصدي حماة وخدمتي  سلطانها من بعد كـلّ أمـير

أنا واثقٌ برشـيد رأيك طـائعٌ  لأمينه الهادي إلى المنصـور

ثم قال من فصل: وما أقول إلا أنه شعر بتلك المسرة المسروقة فأقام عليها القطع، ورأى العيش فيها خفضا فأزاله الرفع.

أقول: وهذا الباب أيضاً مما تقدم، وسوره مما خرب وتهدم، قد دخل الناس فيه أفواجا ، وراقت لآلئهم فيه انفرادا وازدواجا .

قال السراج الوراق يرثي الجزار:

رفعوك وانتصبوا قياما خافضي ال  أصوات إذ جزم الرّدى منك العرى 

وغدوت في الأكفان عنهم مضمـرا  وهم يرونك للجلالة مـظـهـرا

إنّ الصّحيح اعتل مذ فـارقـتـنـا  وأبيك والجمع الصّحيح تكـسّـرا

وقال أيضاً :

نصب العداوة حاسدوك فأعقبوا  جزما لألسنهم وخفض الشّان

فمتى أراهم أدبروا ورؤوسهم  مرفوعةٌ بعوامل الـمـرّان

وقال شهاب الدين التلعفري:

وإذا الثّنيّة أشرفت وشممت من  نفس الحمى أرجا كنشر عبير

سل هضبها المنصوب أين حديثها المرفوع عن ذيل الصبا المجرور وهذا في غاية الحسن من الصناعة، فإنه أتى بالمنصوب في المنصوب، وبالمرفوع في المرفوع، وبالمجرور في المجرور.

وله بيتان آخران في هذا المعنى، ولكن هذين أحسن وأكمل.

وعلى الجملة، فهذه الأشياء قد انتهك المتأخرون حرمتها، ومنعوا من الآباء عصمتها خصوصا أسماء الخلفاء كما تقدم، وألقاب الإعراب وقد تقدم، وأسماء سور القرآن. كما قال أبو الحسين الجزار يمدح فخر القضاة نصر الله ابن بصاقة:

وكم ليلةٍ قد بتّها معسـرا ولـي  بزخرف آمالي كنوزٌ من اليسر 

أقول لفقري كلما اشتقت للغنى  إذا جاء نصر الله تبت يد الفقر

وكما قال أيضاً وقد خلع على شاعر أسود ولم يخلع عليه يخاطب جمال الدين ابن رمضان:

غير خافٍ عنك الذي ناله الأسود  بالأمس من ندى السّـلـطـان

وتمشّيه بالعـمـامة والـثّـوب  ومنديل الكم والـطّـيلـسـان

قلت إذ فصلت عليه أرى الزّخرف  يتلى بالـنّـص فـوق الـدّخـان

وكما قال سيف الدين ابن قزل:

أقسم من جفنـي بـالـذّاريات  ومن دموع العين بالمرسـلات

إني على الإخلاص في حبّكـم  حتى ترى روحي في النازعات 

وكما قال الآخر:

أناشده الرحمن في جمع شملنـا  فيقسم هذا لا يكون إلى الحشـر

إذا ما غدا شبه الـحـديد فـؤاده  فوالعصر إن العاشقين لفي خسر 

وأسماء الكتب كما قال من أبيات:

يا سائلي من بعدهم عن حالـتـي  ترك الجواب جواب هذي المسأله 

حالي إذا حدثـت لا جـمـلا ولا  لمعا لا يضاحي لها من تكمـلـه

عندي جوى يذر الفصيح مبـلّـدا  فاترك مفصّلة ودونك مجمـلـه

القلب ليس من الصّحاح فيرتجـى  إصلاحه والعين سحبٌ مثقـلـه

وقد ذكر في هذه الثلاثة عشرة أسماء من تصانيف الأدب.

كما قال ابن قزل في مليح يلعب بالقانون:

ترى ابن سيناء في يديه  أقلّ ملعوبه الغـنـاء

قانونه المرتضى نجاةٌ  كل إشاراته شـفـاء

وقد ذكر في البيت الثاني على قصر بحره من مصنفات الرئيس أربعة كتب.

وكما قال أبو الحسين الجزار:

يا مالكي ما شـافـعـي  إلــيك إلاّ أدبـــي

حاشاك أن تحتاج في التن  بيه لـلـمـهـــذّب

وأسماء مشايخ العلوم كما قال أبو الحسين الجزار:

إنّ فصل الشتاء منذ نحا جس  مي أبدت بيانه الأعـضـاء

فيه عظمي المبّرد إذ عنّ ال  كسائيّ واحتمى الـفـرّاء

وكما قال ناصر الدين حسن بن النقيب:

يا من مقاماته في الجود مـذهـبةٌ  ومن تشاريفـه وشـيٌ وديبـاج

أعطيتني جسدا ملقى ولـيس لـه  روحٌ وللبـرد إقـلاقٌ وإزعـاج

وليس عن فروةٍ تحت الحرير غنىً  إنّ الحريريّ للفرّاء مـحـتـاج

وكما قال مجير الدين محمد بن تميم:

وصادحةٍ تردّد لي غناهـا  فتطربني وأجهل ما تقول 

بلحنٍ حار إبراهـيم فـيه  ووزنٍ ليس يعرفه الخليل 

وقد نظم شرف الدين المقدسي رحمه الله قصيدة تقارب الخمسين بيتا، جمع فيها جملة من كتب التفسير والحديث والفقه والنحو واللغة وغير ذلك، وذكر مشايخ العلوم وغيرهم. وكلها غزل، وأسماء البروج الإثنى عشر والمنازل. كما قال ابن قزل:

بدرٌ جعلت القلب أخـبـيةً لـه  كي لا يراه رقيبـه الـعـوّاء

خلعت عليه الشّمس رونق حسنه  وحبته رونق ثغره الـجـوزاء

وكما قال الآخر:

بتّ وبدر الدّجى ضجيعي  وهو مواتٍ بلا امتنـاع

فقلت للحاسـدين لـمّـا  أشرقت الشمس بالشّعاع

القلب والطّرف منـزلاه  وهو إلى الآن في الذّراع 

وكما قال الآخر في مليح يحرث:

يا حارثا تروى مقامات الهـوى  عن طرفه الفتّاك غير مؤوّلـه

أضحى يشقّ لحود من قتل الهوى  في حرثه ليست خطوطا مهمله

روحي الفداء لبـدر تـمٍّ سـائقٍ  للثّور، ليس يروم غير السّنبلـه

وأسماء مشاهير العرب، كما قال ابن سناء الملك:

إنّي على ما كان شغلي بالهوى  لم يشتغل وبطالتي لم تبطـل

أنا جدّ أنصار النّبـيّ لأنّـنـي  يا أشهل العينين عبد الأشهـل

وكما قال ابن قزل:

عدتّ فيه جاهليّ الح  ب من غير تعـدّي

لحظ عيني عبد شمسٍ  وفؤادي عـبـد ودّ

وكما قال شمس الدين محمد بن التلمساني:

وما كنت مجنون الهوى قبل أن يرى  لقلبي من صدغيك في الأسر عاقل

ولو أنّ قسماً واصفٌ منـك وجـنةً  لأعجزه نبتٌ بهـا وهـو بـاقـل

وأسماء المدن، وأسماء الملل والنحل، وأسماء أبحر العروض، وأسماء القراء، وأسماء أشكال الرمل وأسماء الشعراء، وأسماء منازل العرب وأماكنها وأشياء غير ذلك.

ولولا خوف الإطالة، وأني لم أضع هذه الأوراق لهذا، لأتيت بالشواهد على ذلك. لتعلم أيها الواقف على كتابي هذا أن ابن الأثير رحمه الله ما أتى بطائل، ولا رقت بكلامه أنفاس الأسحار ولا برود الأصائل، وأنه لو تأخر وجوده إلى هذا العصر علم أن قوله ليس بحجة، وأن قطره يغرق في مثل هذه اللجة، وأن الناس قد بلغوا محط الرحال وهو إلى الآن في الدلجة.

وما أحسن قول مجاهد الخياط يهجو أبا الحسين الجزار:

أبا الحـسـين تـأدّب  ما الفخر بالشّعر فخر 

وما تبلّـلـت مـنـه  بقطرةٍ وهو بـحـر

وإن أتـيت بـبــيتٍ  وما لـبـيتـك قـدر

لم تأت بـالـبـيت إلاّ  عليه للنّاس حـكـر

وقد وضعت كتابا في التورية وسمته فض الختام عن التورية والاستخدام فإن أردت أن تكشف عن ماهية ذلك وتقف على محاسنه، فقف عليه، لعله يكون فيه لك زبدة، أو تجد فيه على ما ترونه نجدة.

ثم قال من فصل يذكر فيه الحمى: ولهذا صارت الأدوية في علاجها ليست بأدوية، وأصبحت أيام نحرها في الناس غير مبتدئة بأيام تروية.

أقول: ليس في السجعة الأولى طائل وهي كلام فارغ. وأما الثانية فما فيها غير التورية بيوم التروية للنحر، وليس في ذلك أمر كبير.

وما أحسن قول الجزار:

إني لمن معشر سفك الدماء لـهـم  دأبٌ، وسل عنهم إن رمت تصديقي 

تضيء بالدّم إشراقا عـراصـهـم  فكـلّ أيامـهـم أيام تـشــريق

وأما أبيات المتنبي في الحمى فما لأحد مثلها في حسنها. منها:

وزائرتـي كـأنّ بـهـا حــياءً  فليس تزور إلاّ فـي الـمـنـام

بذلت لها المطارف والـحـشـايا  فعافتها وباتت فـي عـظـامـي

يضيق الجلد عن نفسي وعـنـهـا  فتوسعـه بـأنـواع الـسّـقـام

إذا ما فارقتنـي غـسّـلـتـنـي  كأنّا عاكـفـان عـلـى حـرام

كأنّ الصّبح يطردها فـتـجـري  مدامعـهـا بـأربـعةٍ سـجـام

وحذا السّراج الورّاق حذوه فقال: 

وزائرتي وليس بها احتشامٌ  تزور ضحىً وتطرق في المنـام

بها عهرٌ ولـيس لـهـا عـفـافٌ  عن الشّيخ الكبـير ولا الـغـلام

إذا طرقت أعاذ الـلـه مـنـهـا  سلوت عن الـكـرائم والـكـرام

لها في ظـاهـري حـرٌ وبـردٌ  بقلبي والفتور ففـي الـعـظـام

تلهوج نارها لحمـي طـعـامـا  وتشرب من دمي صرف المـدام

وأصوات الغنـاء لـهـا أنـينـي  فما تنفك مـن هـذا الـمـقـام

تضاجعني على ضعفي وشـيبـي  وقـد أعـييت ربـات الـخـيام

إذا ما فارقتنـي غـسّـلـتـنـي  لأني قد وصلت إلى حـمـامـي

وما أحسن قول أمهدوست الديلمي:

وزائرةٍ تـزور بـلا رقـيب  وتنزل بالفتى من غير حبّـه

تبيت بباطن الأحشاء مـنـه  فيطلب بعدها من عظم كربه 

وتمنعه لذيذ العـيش حـتّـى  تنغّصه بمطعمه وشـربـه

أتت لزيارتي من غير وعـدٍ  وكم من زائرٍ لا مرحبا بـه

وقول ناصر الدين حسن بن النقيب:

أقول لنوبة الحمى اتركـينـي  ولا يك منك لي ما عشت أوبه 

فقالت: كيف يمكن ترك هـذا  وهل يبقى الأمير بغير نوبـه

وقد ظرف مجير الدين محمد بن تميم في قوله، وقد حم النور الإسعردي:

أخفوا شماتتهم لديّ وأقبلـوا  في زي مقروح الفؤاد كليم 

قالوا بأنّ النّور حمّ فقلت لا  يس حول النّور مـن حـم

هكذا تكون مقاصد أهل الأدب وتورياتهم وأوصافهم، ليس كما قال ابن الأثير الأدوية في علاجها ليست أدوية.

وأقوال الناس في المليح المحموم مشهورة فلا حاجة إلى ذكرها. وكنت في وقت قد كتبت إلى بعض الأصحاب كتابا أشكو فيه الحمى. من ذلك: وينهي لا بل يشكو حاله التي ليس له منها بدل، وآلامه التي كلمت أعضاءه فلا يطيق جلده قطع ذاك الجدل، وحماه التي يلدغه منها عقرب وترميه قوس فليت جسمه مع ذلك حمل، واتصال رشح عرقه الذي لا يقال مع بحره سآوي من الصبر الجميل إلى جبل، فأين قولهم لقيت منها عرق القربة، ممن لقي منها غرق الكربة.

إذا ما فارقتني غسّلتني  كأنّا عاكفان على حرام 

ويعجز المملوك عن وصف ما حصل لرأسه من الصداع ولجسمه من الصدوع، ولآماله المعلقة من القطع ولحظه من القطوع.

ثم قال من فصل كتاب إلى ديوان الخلافة يتضمن فتوح بلد من الكفار: والسائر بها فلان، وهو راوي أخبار نصرها التي صححتها في تجريح الرجال، وعوالي إسنادها مأخوذة من طرق العوال، والليالي والأيام لها رواة فما الظن برواية الأيام والليال.

أقول: هذا الفصل ختم به الكتاب الذي عارض به القاضي الفاضل في فتح القدس. وقد أورده هنا أيضاً وادعى فيه هذه الدعوى، وأذكرني هنا بقول مجير الدين محمد بن تميم:

إني لأعجب في الوغى من فارسٍ  حارت دقائق فكرتي في كنهـه

أدى الشهادة لي بأني فارس الـه  يجاء حين جرحته في وجـهـه

وهو مأخوذ من قول ابن الساعاتي:

وكائن سقى جيشا كؤوس حمامه  دهاقا وأطراف العوالي مجاديح

فيا سيفه حزت العدالة في العدى  وما شاهدٌ إلاّ له بك تـجـريح

وما أحلى قول القاضي الفاضل: وعرف المملوك ركوب مولانا الملك الأفضل في القلب ولقد سخا السلطان على القلب بقلبه، وأبرزه حاسرا لحربه، وهذا الموقف نص صحيح على السلطنة، وهو نص مطلق كان السيف فيه القاضي والنصر البينة، عرس به الإسلام وكان النثار دنانير غرر الصواهل، والتحايا رياحين أطراف الذوابل، فهو أعز الله نصره السابق ولادا وجهادا ، ولقد ولد أبوه والدا وولد الآباء أولادا ، والحمد لله الذي أنجد الإسلام منه ومن سيفه بعلي وذي الفقار وبعمر وفي يده سيف عمار.

الذي يتعلق بهذا الموطن السجعتان الأوليان، ولكن القلم استلذ هذا النغم وقال: معذور من امتلا، وغب كؤوس الطلا.

 

الأحاجي والمغالطات في مقامات الحريري

ثم قال في النوع الحادي والعشرين في الأحاجي: وكذلك فعل الحريري في مقاماته، فإنه ذكر الأحاجي التي جعلها على حكم الفتاوى كناية ومغالطةً، وظن أنهما من الأحاجي الملغزة كقوله: أيحل للصائم أن يأكل نهارا . ثم إن ابن الأثير أخذ يستدل على أن ذلك من باب المغالطات المعنوية.

وأقول على أني ما أدري ما أقول، هذا الرجل رحمه الله تعالى يتصور شيئاً ويلزم الناس به، ويرميهم بمساوئه ولم يكونوا أرادوه ولا قالوه.

والمقامات فكتاب اشتهر وحفظ، ودرس وما اندرس، وهذه المسائل التي أشار إليها قد أودعها الحريري رحمه الله تعالى المقامة الثانية والثلاثين. وهي مائة فتيا، وسردها مرتبة على تبويب الفقه، ولم يسم ذلك أحجية ولا لغزا . بل قال عند ذكرها: فصمد له فتىً فتيق اللسان، جري الجنان وقال: إني حاضرت فقهاء الدنيا، وانتحلت منهم مائة فتيا. فإن كنت ممن يرغب عن بنات غير، ويرغب منا في مير، فاستمع وأجب، لتقابل بما يجب. فقال: الله أكبر، سيبين المخبر، وينكشف المضمر، فاصدع بما تؤمر.

قال: ما تقول فيمن توضأ ثم لمس ظهر نعله ? قال: انتفض وضوءه بفعله حتى فرغ من ذلك، ولم يقل أحجية ولا لغزا ولا كناية ولا مغالطة.

وأما في مقدمة الكتاب فإنه قال: ورصعته فيها من الأمثال العربية، واللطائف الأدبية، والأحاجي النحوية، والفتاوى اللغوية فذكرها في المقدمة وفي المقامة التي اختصت بها أنها فتاوى.

ولابن فارس كتاب سماه فتاوى اللغة ومنه استمد الحريري؛ فأي حرج على الحريري إذا سمى ذلك فتاوى.

 

الفرق بين الإلغاز والوصف

أمثلة من وصف السفن

قال: وعلى هذا الأسلوب ورد قول أبي الطيب في السفن:

وحشاه عاديةً بـغـير قـوائمٍ  عقم البطون حوالـك الأبـدان

تأتي بما سبت الخيول كأنّـهـا  تحت الحسان مرابض الغزلان 

أقول: قد عد هذين من الإلغاز، وليسا من ذلك في شيء، بل هما من باب الأوصاف، لأن اللغز من شرطه أن لا يذكر الملغز به صريحا في الكلام، وهذا يخالف ذلك لأن أبا الطيب قال قبلهما:

فتل الحبال من الغدائر فوقه  وبنى السّفين له من الصلبان 

وهذا تصريح. فهما من باب الأوصاف لا من باب الألغاز.

وانظر إلى قول السراج الوراق يلغز في المركب:

وما هو شيءٌ علينا كبـير  ومقصودنا منه شيءٌ يسير 

غدا واحدا وهو جمعٌ كما  أتانا بذاك الكتاب المنير

أما الأول، فهو ظاهر على ما فيه من التورية. وأما الثاني، فإنه قد نص أئمة اللغة على أن الفلك لفظ يستوي فيه المفرد والجمع.

وقد نظمت أنا لغزا في السفينة فقلت:

وجاريةٍ حلّ لي وطؤها  ولم يك في ذاك ما يمنع 

ويا عجبا ما أتـت ريبةً  وألزمها أنّها تـقـلـع

فقول السراج وقولي من باب اللغز، لأنا لم نصرح بلفظ المركب ولا السفينة، وأما المتنبي، فإنه صرح بذكر السفين فخرج من هذا الباب، وهو من باب الأوصاف.

وكذا قول مجير الدين محمد بن تميم:

عجبت للبحـر لـمّـا أن رأيت بـه  تلك الصّواري وقد أربت على الحبك 

أظنّها لـم تـطـل إلاّ وقـد ولـيت  حمل الرّسائل بين الفُلك والـفـلـك

وقول أيضاً مضمنا :

ولما ركبنا الفلك والبحر قد طمى  وهاج علينا موجه المتـلاطـم

تمشّت لنا في لجّةٍ ببطـونـهـا  كما تتمشّى في الصّعيد الأراقم

وابن قلاقس الإسكندري ممن أجاد أوصاف السفن في عدة قصائد. من ذلك قوله وقد ذكر البحر:

ترى المواخر تجري في زواخره  فترتقي في أعاليه وتـنـحـدر

من كلّ سوداء مثل الخال يحملها  بوجنةٍ منه فيها للضّحى خفـر

وقوله أيضاً من قصيدة:

وقد رأيت به الأشـراط قـائمةً  لأن أمواجه تجري بـأطـواد

تعلو فلولا كتاب الله صحّ لـنـا  أن السّماوات منها ذات أعمـاد

ونحن في منزلٍ يسري بساكنـه  فاسمع حديث مقيمٍ بيتـه غـادٍ

أبيت إن بتّ ومنه في مصـوّرةٍ  من ضيق لحدٍ ومن إظلام إلحاد 

لا يستقر لنا جنبٌ بمضجـعـه  كأنّ حالاتنـا حـالات عـبّـاد

وله أشياء غير هذه، أضربت عنها خوف الإطالة.

وما أحلى قول أبي الحسين الجزار:

كنت في كلكّةٍ تطير بقـلـعٍ  وهي طورا على المنايا تحوم 

أنظر الموج حولها فإخال ال  جيم تاءً لخيفتي وهـي جـيم

لم أجد لي فيها صديقا حميمـا  غير أنّي بالماء فيها حـمـيم

وإذا ما دنت إلى البرّ أمسـى  عندنا منه مقـعـد ومـقـيم

يسجد الجرف كلّما ركع المو  ج فدأبي هنالك التّـسـلـيم

وقبيح عليّ أن أشتكـي بـر  را وبحرا وأنت بـر رحـيم

وقال ابن الساعاتي وإن كان فيه بعض قلق:

ولمّا توسّطنا مدى النيل غـدوةً  ظننت وقلب اليوم باللّهو جذلان 

عشاريّة إنسانا له الماء مـقـلةٌ  وليس لها إلا المجاذيف أجفان

وقد ذكر القاضي الفاضل رحمه الله المراكب في مواطن. منها قوله: ووافى الأسطول في خمسين غرابا طائرا من القلوع بأجنحته، كاسرا بمخالب أسلحته، فما وافى شملا إلا دعاه إلى الحين، وحقق ما يغري إليه من البين.

وقوله: فيملأها عليهم جواري في البحر كالأعلام، ومدنا في اللج سوائر كأنها الليالي مقلعات بالأيام، وتطلع علينا معاشر الإسلام آمالا ، وتطلع على الكفار آجالا ، مسومة تمدها ملائكة مسومة، ومعلمة تقدم حيازيمها إقدام حيزوم تحت الحزمة.

قال: وأحسن من ذلك وألطف قول بعضهم في الخلخال:

ومضـروبٍ بـلا جـرمٍ  مليح اللّون معـشـوق

له قدّ الـهـلال عـلـى  مليح القدّ مـمـشـوق

وأكثـر مـا يرى أبـدا  على الأمشاط في السّوق 

أقول: كذا وجدته في النسخة بالمثل ووقفت عليه أيضاً في كتاب: الإعجاز في الأحاجي والإلغاز للحظيري على هذه الصورة.

والأحسن أن يقال فيه: له شبه الهلال أو شكل الهلال أو طوق الهلال. فإن قد الهلال غير مناسب. ولكن هذا من قوله فيما تقدم في التفاح وعظم قده.

وقلت أنا ملغزا في الخلخال:

ما أصفرٌ دار علـى أبـيضٍ  لان ولكـن قـلـبـه قـاس

وربّ ساقٍ غصّ منـه ومـا  أحسن هذا الوصف في النّاس 

وقلت فيه أيضاً :

أيا عجبا من صابرٍ صامتٍ ولـم  يفه بكلام قطّ في ساعة الضّرب 

أقام ولم يبرح مكـانـا ثـوى بـه  على أنّه أضحى يدور على الكعب 

وإن كان الشيء يذكر بالشيء، فما أحلى قول القائل ملغزا في دملج:

إلى النساء يلتجي  وعندهنّ يوجـد

الجسم منه فضّةٌ  والقلب منه جلمد 

 

مناقشة الصفدي لابن الأثير في تعليقه على لغز في حمام

قال: ووجدت لبعض الأدباء لغزا في حمام: ثم إنه ذكره وقال بعد الفراغ منه: وهذا من فصيح الألغاز، ولا يقال في صاحبه إنه في العمى ضائع العكاز.

أقول: ما السجعة الثانية مناسبة للأولى في المدح والتقريظ، وما كانت السجعة تريد إلا أن يقول بعدها: ولا أنه في الحيوان معدود من البهائم لأنه انفرد بالنطق وامتاز. ! وما رأيت من قرظ أحدا بمثل هذا التقريظ ويكون المقام مقام استحسان وثناء ومدح فيقال: ما هو في العمى ضائع العكاز. وأي مدح في هذا وقد جعله أعمى بعكاز، وهو أشد حالا من الأعمى الذي يمشي بلا عكاز. لأن الذي يعتمد مع عماه على عكازه، يكون قد جمع بين عمى البصيرة وعمى البصر. والظاهر أنه أراد أن يذكر المعمى فما اتفق له، والتزم بالزاي فما وجد غير العكاز، وآخر هذه السجعة عجز بيت لأبي الطيب. وهو: ويرى أنّه البـصـير بـهـذا  وهو في العمي ضائع العكّاز 

 

من أقوالهم في الحمام

وعلى ذكر الحمام فلا بأس بذكر شيء من كلام المتأخرين في هذا الموطن وإيراده.

كتب القاضي محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر رحمه الله تعالى يستدعي إلى حمام: هل لك أطال الله بقاءك إطالة تكرع في منهل النعيم، وتتملى بالسعادة تملي الزهر بالوسمي والنظر بالحسن الوسيم في المشاركة في جمع بين جنة ونار، وأنواء وأنوار، وزهر وأزهار، قد زال فيه الاحتشام وكل عار ولا عار.

نجوم سمائه لا يعتريها أفول، وناجم رخامه لا يغيره ذبول، تنافست العناصر على خدمة الحال به، تنافسا أحسن كل فيه التوصل إلى بلوغ مآربه فأرسل البحر ما جسده حسده من زبده، لتقبيل يد أخمصه إذ قصرت همته عن تقبيل يده، ولم ير التراب له في هذه الخدمة مدخلا ، فتطفل وجاء وما علم أن التسريح لمن جاء متطفلا ، والنار رأت أنه عين مباشرتها وأنها بفرض خدمته لا تخل ولأن لها حرمة هداية الضيف في السرى، وبها دفع القر ونفع القرى، فأعلمت ضدها الماء فدخل وهو حر الأنفاس، وغلت مراجله فلأجل ذلك داخله من صوت تسكابه الوسواس، ورأى الهواء أنه قصر عن مطاولة هذه المبار، فامسك متهيبا ينظر ولكن من وراء زجاجة إلى تلك الدار، ثم إن الأشجار رأت ان لا شائبة لها في هذه الحظوة ولا مساهمة في تلك الخلوة، فأرسلت من الأمشاط أكفا أحسنت بما تدعو إليه الفرق، ومرت في سواد العذار الفاحم كما يمر البرق، وذلك بيد قيم قيم بحقوق الخدمة، عارف بما يعامل به أهل النعيم أهل النعمة، خفيف اليد مع الأمانة، موصوف بالمهابة عند أهل تلك المهانة، لطف أخلاقا حتى كأنها عتاب بين جحظة والزمان، وحسن صنعةً فلا يمسك يدا إلا بمعروف ولا يسرح تسريحا إلا بإحسان، أبدا يرى مع طهارته وهو ذو صلف، ويشاهد مزيلا لكل أذى حتى لو خدم البدر لأزال من وجهه الكلف، بيده موسى كأنها صباح ينسخ ظلاما ، أو نسيم ينفض عن الزهر أكماما ، إذا أخذ صابونه أفهم من يخدمه بما يمره على جسده أنه بحر عجاج، وأنه يبدو منها زبد الأعكان التي هي أحسن من الأمواج.

فهلم إلى هذه اللذة، ولا تعد الحمام دعوة أهل الحراف فربما كانت هذه من بين تلك الدعوات فذة.

وكتب أيضاً في محضر قيم في حمام الصوفة:   

يقول العبد الفقير إلى الله تعالى عبد الله بن عبد الظاهر أن أبا الحجاج يوسف ما برح لأهل الصلاح ميمما ، وله جودة صناعة استحق بها أن يدعى قيما ، كم له عند جسد من من جسيم، وكم أقبل مستعملوه تعرف في وجوههم نضرة النعيم، وكم تجرد مع شيخ صالح في خلوة، وكم قال ولي الله يا بشراي لأنه يوسف حين أدلى في حوض دلوه، كم خدم من العلماء والصلحاء إنسانا ، وكم ادخر بركتهم لدنيا وأخرى فحصل من كل منهم شفيعين مؤتزرا وعريانا ، كم شكرته أبشار البشر، وكم حك رجل رجل صالح فتحقق هنالك أن السعادة لتلحظ الحجر، قد ميز بخدمة الفضلاء أهله وقبيله، وشكر على ما يعاب به غيره من طول الفتيلة، كم ختم تغسيل رجل بإعطائه براءته يستعملها ويخرج من حمام حار، فاستعملها وخرج فكانت له براءةً وعتقا من النار، كم أوضح فرقا ، وغسل درنا مع مشيب فكان الذي أنقى فما أبقى، تتمتع الأجساد بتطييبه لحمامه بظل ممدود وماء مسكوب، وتكاد كثرة ما يخرجه من المياه أن يكون كالرمح أنبوبا على أنبوب، كم له بينة حر على تكثير ماء يزول به الاشتباه، وكم تجعدت فباءت كالسطور في كل حوض فقل هذا كتاب الطهارة باب المياه، كم رأس انشدت موساه حين أخرجت من تلاحق الإنبات خضرا: ولو أنّ لي في كلّ منبت شعرةٍ  لسانا يبثّ الشكر كنت مقصّرا

أقول: ليس يخفى ما في هذا الكلام من التورية والاستخدام وحل الأبيات والحديث وغيره، ولولا خوف الإطالة لذكرت ذلك.

وما أحسن قول النصير الحمامي وألطفه:

لي منزلٌ معروفـه  ينهلّ غيثا كالسحب

أقبل ذا العـذر بـه  وأكرم الجار الجنب 

وقوله أيضاً :

وكدّرت حمّامي بغيبتـك الـتـي  تكدّر من لذّاتها كـلّ مـشـرب

فما كان صدر الحوض منشرحا بها  ولا كان قلب الماء فيها بـطـيّب

وكتب يستدعي إلى حمامه:

من الرّأي عندي أن تواصل خلوةً  لها كبدٌ حرى وفـيض عـيون

تراعي نجوما فيك من حرّ قلبهـا  وتبكي بدمعي فـارحٍ وحـزين

غدا قلبها صبا علـيك وأنـت إن  تأخرت أضحى في حياض منون 

وللناس في مدح الحمام وذمها أشياء مليحة ليس هذا موضع ذكرها خوف الإطالة.

 

أمثلة على الألغاز الحسان

ومناقشة الفرق بين اللغز والتعريض

قال: ومما سمعته من الألغاز الحسان التي تجري في المحاورات، ما يحكى عن عمر بن هبيرة وشريك النميري. وذلك أن عمر كان سائرا على برذون له، وإلى جانبه شريك النميري، فتقدمه شريك في المسير فصاح به عمر: اغضض من لجامها. فقال: أصلح الله الأمير، إنها مكتوبة. فتبسم عمر ثم قال له: ويحك لم أرد هذا. فقال له شريك: ولا أنا أردته.

وكان عمر أراد قول جرير:

فغضّ الطرف إنّك من نميرٍ  فلا كعبا بلغت ولا كلابـا

فأجابه شريك بقول الآخر:

لا تأمننّ فزاريا خلوت بـه  على قلوصك واكتبها بأسيار 

 

الفرق بين اللغز والتعريض

أقول: ليس هذا وأمثاله من الإلغاز في شيء، لأن اللغز هو أن تذكر شيئاً بصفات يشاركه فيها غيره، فيرجع الذهن في ذلك إلى حيرة لا يدري مصرفها إلى أي متصف منهما بتلك الصفات، لكونها تصدق من جهة وتكذب من أخرى. واشتقاقه من اللغيزي، وهي حفر يحفرها اليربوع تحت الأرض، ويجعلها متشعبة يمنة ويسرة ليخفي أمره على من يقصده، فإذا طلبه في واحد منها خرج من آخر.

ألا ترى أن السامع إذا سمع قول القائل:

جاريةٌ جاءت من الهنـد  يحثّها السير إلى القصـد

لها بناتٌ لسن من جنسها  في حدّهم جزن عن الحد 

لهم قرونٌ ولها حـافـرٌ  وذاك من أغرب ما أُبدي 

وأعجب الأشياء أولادهـا  يكلّمون الناس في المهد

أخذ يقول في نفسه: في البيت الأول، جارية جاءت من الهند يحثها السير، ما في ذا شيء، فإذا سمع الثاني: لها بنات لسن من جنسها، رجع في الحيرة وفكر وقال: كيف يكن من غير جنس أمهن. فإذا سمع الثالث: لهم قرون ولها حافر، زاد في حيرته وقال: لسن هؤلاء ولا أمهن من الأناسي. فإذا سمع الرابع: يكلمون الناس في المهد، تأكدت حيرته، ثم رجع إلى أنهن من الأناسي لإثبات المهد والكلام، وأخذ يعمل فكرته في موجود متصف بهذه الصفات. فإذا أعيى مال إلى الألفاظ المشتركة، ونزله بقوة فكرته وإصابة حدسه على أن ذلك لا يصدق إلا على الدست الذي للقاصد وريشه وما أحلى ما استعمل هذا الشاعر، السير والحافر والتكليم، وهكذا يكون اللغز.

وحكاية ثعلب رحمه الله مشهورة مع الأعرابي الذي وقف عليه وأنشده ملغزا بيتا بعد بيت وثعلب يقول: هذا كذا، ثم ينتقل في الثاني إلى غير التفسير الأول، حتى إذا فرغ الأعرابي من إنشاده قال ثعلب: هذا قلم.

وإذا ثبت هذا في اللغز، فليس الذي ساقه ابن الأثير من الألغاز، وإنما ذلك من باب التعريض والإشارة، كأن المتكلم بمثل هذا يعرض للمخاطب بما قيل ويشير له إلى واقعة وقعت. وما رأيت من عد مثل هذا لغزا غير ابن الأثير رحمه الله تعالى على أنه قال في المثل في الكناية والتعريض: إنما سمي التعريض بهذا لأن المعنى فيه يفهم من عرض اللفظ، أي: من جانبه، وعرض كل شيء جانبه.

أقول: وكذا واقعة عمر وشريك، كل منهما فهم مقصود صاحبه من عرض كلامه. فإن غض جانب من قول الشاعر: فغض الطرف... البيت. 

وكذا الكتب جانب من قوله: واكتبها بأسيار. فتعين أن التعريض غير اللغز. وهذا شريك صاحب أجوبة حادة. يقال: إن أهل الكوفة كانوا إذا تمنى منهم أحد شيئاً يقول: أتمنى أن يكون لي فقه أبي حنيفة، وحفظ سفيان وورع مسعر بن كدام وجواب شريك.

ومثل حكاية عمر وشريك، ما ذكره صاحب الأغاني. قال: عرض معاوية على عبد الرحمن بن الحكم خيله، فمر به فرس فقال: كيف تراه ? قال: هذا سابح. ثم عرض عليه آخر. فقال: وهذا ذو علالة. ثم مر به آخر فقال: وهذا أجش هزيم. فقال له معاوية: أبي تعرض ?! قد علمت ما أردت، إنما عرضت بقول النجاشي:

ونجّى ابن حربٍ سابحٌ ذو علالةٍ  أجشّ هزيمٌ والـرّمـاح دوان

اخرج فلست تساكنني في بلد.

فانظر إلى كلام معاوية رضي الله عنه كيف صرح بلفظة التعريض في الموضعين.

وقد ساق علماء الأدب من هذا الباب جملة في كتبهم. وأما أبو عبد الله محمد بن السيد البطليوسي فقد ساق واقعة شريك وعمر بن هبيرة هذه في شرح أدب الكاتب، ثم قال بعد الفراغ منها: عرض له ابن هبيرة بقول جرير، وعرض له شريك بقول سالم بن دارة. وساق أمثال هذه الواقعة، وفي الكل يقول: عرض. وهذا صريح من مثل هذا الرجل وهو إمام فيما يقوله وقوله حجة.

وما أحسن قول من قال وما ألطفه:

إسقني خمرةً كـرقّة دينـي  أو كعقلي ولا أقول كحالـي

خيفةً من توهّم النّـاس أنـي  قلت هذا في معرضٍ للسّؤال 

ومن التعريض قول السراج الوراق يعرض بطلب صابون:

بعثت لك الكتاب وقلّ سعيي  على رأسي لبابك بالكتـاب

وعذري عنك في التأخير أنّي  تبددت الدّواة على ثـيابـي

ونقلت من خط السراج الوراق رحمه الله ما صورته: كان أبو الحسين النحوي يجلس عند شرابي، فجاء يوماً فوجد في موضعه قمقم ما ورد. فقال له الشرابي: يا سيدنا نشيل القمقم وتجلس. فقال له: كيف وقد أمرتني بالقيام مرتين بقولك: قمقم ?! واتفق أن أهدى إلي شخص قمقما فأنشدته:

إن كان ذلك قال قم قم طاردا  لجليسه بإشارةٍ في القمـقـم

فأنا الذي قعد الزمان بحظـه  فأتى بذاك له ونادى: قم قـم

 

المبادىء والافتتاحات

قال في النوع الثاني والعشرين في المبادىء والافتتاحات:   

ومن الحذاقة في هذا الباب، أن يجعل الدعاء في أول المكاتبات السلطانيات والإخوانيات وغيرهما مضمنا من المعنى ما بني عليه ذلك الكتاب، وهذا شيء انفردت بابتداعه، وتراه كثيراً فيما انشأته. ثم قال: ومن ذلك ما ذكرته في الهناء بمولود وهو: جدد الله مسرات المجلس الفلاني، ورسل صبوح هنائه بغبوقه، وأمتعه بسليله المبشر بطروقه، وأبقاه حتى يستضيء برأيه ويرمي عني فوقه، وسر به أبكار المعالي حتى يخلق أعطافها بخلوقه، وجعله كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه.

أقول: هذا وقد عاب على الصابي وعلى جماعة من الشعراء في الافتتاحات، وادعى هذه الدعوى، ثم أتى بمثل هذا الافتتاح في الهناء بمولود.

وليس في أول سجعة ما يدل على أن الهناء بمولود أو ختان أو عرس أو فتح أو عيد أو برء من مرض أو غير ذلك من أنواع المسار، وإنما دلت على مطلق الهناء.

وأما قوله: وسر به أبكار المعالي حتى تخلق أعطافها بخلوقه، ما أدري ما في هذا من البلاغة.

وكتبت أنا في هناء بمولود: وزان أفق السعادة بنجمه الذي أصبح بازغا ، وبلغه في صباه أعلى المفاخر حتى يكون قبل البلوغ لغايات المعالي بالغا ، وشغل به السيادة فإن قلبها إلا من هذا البيت لا يزال فارغا .

وكتبت أيضاً : وحفظ على غاب الممالك شبله، وجعله طليعة بشرى لما بعده كما جاء ساقة خير لما قبله، وأهله لأن يكون أمام صفوف الحرب إماما ، كما جعل وجهه للحسن جامعا ويده للقبل قبلة.

وكتبت أيضاً : وأقر عينه بهذه القرة، وبلغه نهايات آماله فيه من السعود فإنها مترجمة في هذه الطرة، وجعل الأصيل زعفران هذا الخلوق والشفق عقيقة هذه الدرة.

وقد كتبت جوابا عن كتاب ورد قرين تفاصيل قماش مطاير. فقلت يقبل الباسطة لا زالت جمل جودها مشكورة التفاصيل، وتحف برها المرقومة تعمل لوليه ما يشاء من محاريب وتماثيل، ونقوش هداياها ترمي نفوس العدى بالهلاك من طيورها الأبابيل.

وعلى ذكر الهناء بالولد. فمما جاء في كلام القاضي الفاضل رحمه الله تعالى وهذا الولد المبارك هو الموفي لاثنى عشر ولدا ، بل لاثنى عشر نجما متقدا ، فقد زاده الله في أنجمه عن أنجم يوسف نجما ، ورآهم المولى يقظةً ورأى تلك حلما ، ورآهم ساجدين له ورأينا الخلق لهم سجودا ، وهو قادر أن يزيد حدود المولى إلى أن يراهم أبا وجدودا .

ومن كلامه أيضاً : ونهي أن الله وله الحمد رزق الملك العزيز عز نصره ولدا مباركا عليا ، ذكرا سويا ، نقيا تقيا ، من ذرية بعضها من بعض، ومن بيت كادت ملوكه تكون ملائكةً في السماء ومماليكه ملوكا في الأرض، في غرة الهلال من جمادى فلهذه الليلة غرتا هلالين، بشرتا بالأنواء صادقتين. وأصدر المملوك هذه الخدمة مبشرا بأن الله تعالى لا يخلي مولانا في كل وقت من زيادة أولاد يمنحها، أو زيادة بلاد يفتحها. فهو في كل يوم مبشر، بما هو له ميسر، والفلك بما نرجوه له جار وله مسمر، فيطلع عليه نجومه نجما نجما ، وتستهل سحبه عليه سجما سجما ، وقد ورد في الأثر أن الولد ريحان الجنة، فالبيوت الكريمة على هذه بساتين، والأولاد البررة على هذه رياحين، فلا عفا بستاننا، ولا ذوى ريحاننا، وعلا جد بني مولانا الذي هو جدهم وأبوهم وسلطاننا.

وقد ادعى ابن الأثير أنه الذي انفرد بمناسبات المبادىء، وهذا ما زال غالب الناس يراعيه. وقد نص على ذلك ابن خلف في المنثور البهائي قال: ومن ذلك مفتتح كتاب إلى ديوان الخلافة، وساق مقدمة الكتاب، وفي آخرها: وقد يعبر عن الكتاب ونائله، بالسحاب ووابله، فإن صدر عن يد كيد الديوان العزيز فقد وقع التشبيه موقع الصواب، وصدق حينئذ قول القائل، إن البحر عنصر السحاب.

أقول: ليس هذا من التحقيق في شيء، ومن ادعى أن السحاب من البحر، فليس عنده علم بحقيقة ذلك وكيف والبحر ملح أجاج، والقطر المنزل من السحب عذب فرات ?.

وقد فسر قوله تعالى: "وفي السماء رزقُكم وما تُوعدون" أنه السحاب التي تمطر، ولو كان كما زعمه، لقال: وفي البحر رزقكم.

وقال الله تعالى: "الله الذي يُرسِل الرّياح فتُثير سَحابا"، فجعل علة منشأ السحاب إرسال الرياح، ولم يذكر البحر.

وما أحسن قول ابن زيدون:

للشفيع الغناء والحمد في صو  ب الحيا للرّياح لا للـغـيوم

إشارةً إلى معنى الآية الكريمة. وإن كان جاء في ذلك نقل يوثق بصدقه، يرد بالتأويل إلى هذا.

وقد قال أبو العلاء المعري:

وقد يجتدى فضل الغمام وإنّـمـا  من البحر فيما يزعم الناس نجتدي 

فاحترز بقوله: فيما يزعم الناس. يعني: في الظاهر. وإن كان الأمر في الباطن بخلاف ذلك.

وما أحسن قول الحسين بن مطير يصف مطرا :

لو كان من لجج السّواحل ماؤه  لم يبق في لجج السّواحل ماء

وربما كابر بعض الجهال وقال: إن السحاب من البحر ولكن الرياح تقصره فيحلو. ومن هذا قول التهامي:

كالبحر تمطره السّحاب ومالها  فضلٌ عليه لأنّه مـن مـائه

وما يليق بهذا المكان غير التنبيه على أن المطر ليس من البحر، وأن البحر ليس بعنصر السحاب. وغير ذلك يؤخذ من كتب هذا الفن في الطبيعيات.

وما أحلى قول القاضي الفاضل رحمه الله تعالى: وصل كتابه وقد انقضى الربيع وعهده، وصدر وارده وقوض ورده، فنابت سطوره فأحسنت النيابة، وعرف الناس ما بينه وبين الربيع من القرابة، بل الأخوة فإن أمهما السحابة.

قال: ومن جملة الكتب المشار إليها، مفتتح كتاب كتبته إلى بعض الإخوان، وأرسلته إليه من الموصل ثم ذكر الكتاب.

ولما فرغ منه، بخبخ لنفسه وأثنى، وساق كتبا أخر في معنى الثناء على المراسلات الواردة، ومنها من الحسن بعض إحسان، وإذا قرنتها بكلام الفاصل قلت فتى ولا كمالك ومرعىً ولا كالسعدان.

 

من المحاسن افتتاح الكتاب بآية أو حديث أو بيت شعر

قال: ومن محاسن هذا الفن، أن يفتتح الكتاب بآية من آيات القرآن، أو بخبر من الأخبار النبوية، أو بيت من الشعر، ثم يبنى الكتاب عليه.

فمن ذلك ما كتبته في ابتداء كتاب يتضمن البشرى بفتح. وهو: ومن طلب الفتح الجليل فإنّـمـا  مفاتحه البيض الخفاف الصّوارم 

وقد أخذنا بقول هذا الشاعر الحكيم، وجعلنا السيف وسيلة إلى استنتاج الملك العقيم.

أقول: من محاسن ما وجدته من هذا النوع، كتاب كتبه القاضي محيي الدين ابن عبد الظاهر رحمه الله تعالى، جوابا إلى الأمير شمس الدين آقسنقر، عن كتاب ورد منه بفتح بلاد النوبة، استفتحه بعد البسملة بقوله تعالى: "وجعلنا الليل والنَّهار آيتين، فمحونا آيةَ الليل وجعلنا آيةَ النهار مُبصِرة" أدام الله نعمة المجلس، ولا زالت عزائمه مرهوبة، وغنائمه مجلوبة ومجنوبة، وسطاه وخطاه هذه تكف النوب وهذه تكف النوبة، ولا برحت وطأته على الكفار مشتدة، وآماله لإهلاك الأعداء كرماحه ممتدة، ولا عدمت الدولة بيض سيوفه التي ترى بها الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة.

صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس تثني على عزائمه التي واتت على كل أمر رشيد، وأتت على كل جبار عنيد، وحكمت بعدل السيف في كل عبد سوء "وما ربُّك بظلاّم لِلعبيد". حيث شكرت الضمر الجرد وحمدت العيس، واشتبه يوم النصر بأمسه بقيام حروف العلة مقام بعض فأصبح غزو كنيسة سوسن كغزاة سيس.

ونفهه أنا علمنا فضل الله بتطهير البلاد من رجسها وإزاحة العناد، وحسم مادة معظمها الكافر وقد كاد وكاد، وتعجيل عيد النحر بالأضحية بكل كبش حرب يبرك في سواد، وينظر في سواد، ويمشي في سواد. وتحققنا النصر الذي شفى النفوس وأزال البوس، ومحا آية الليل بخير الشموس، وخرب دنقلة بجريمة سوس، وكيف لا يخرب شيء يكون فيه سوس.

فالحمد لله على أن صبحتهم عزائم المجلس بالويل، وعلى أن أولج النهار من السيف منهم في الليل، وعلى أن رد حرب حرابهم إلى نحورهم، وجعل تدميرهم في تدبيرهم، وبين خط السيف الأبيض من الخيط الأسود من فجر فجورهم، وأطلع على مغيبات النصر ذهن المجلس الحاضر، وأورث سليمان الزمان المؤمن ملك داوود الكافر، وقرن النصر بعزم المجلس الأنهض، وأهلك العدو الأسود بميمون طائر النصر الأبيض، وكيف لا وآقسنقر هو الطائر الأبيض. وأقر لأهل الصعيد كل عين، وجمع شملهم فلا يرون من عدوهم بعدها غراب بين، ونصر ذوي السيوف على ذوي الحراب، وسهل صيد ملكهم على يد المجلس وكيف يعسر على السنقر صيد الغراب ?. والشكر لله على إذلال ملكهم الذي لان وهان، وأذاله ببأسه الذي صرح به شر كل منهم في قتاله فأمسى وهو عريان، وإزهاقهم بالألسنة التي غدا طعنها كفم الزق غدا والزق ملآن، ودق أقفيتهم بالسيف الذي أنطق الله بفاله أعجم الطير فقال: دق قفا السودان.

ورعى الله جهاد المجلس الذي قوم هذا الحادث المنآد، ولا عدم الإسلام في هذا الخطب سيف الذي قام خطيبا وكيف لا وقد ألبسه منهم السواد، وشكر له عزمه الذي استبشر به وجه الزمن القطوب، وتحققت بلاد الشمال به صلاح بلاد الجنوب، وأصبحت به سهام الغنائم في كل جهة تسنهم، ومتون الفتوحات تمتطى فتارةً يمتطي السيف كل سيس وتارةً كل أدهم، وحمد شجاعته التي ما وقف لصدمتها السواد الأعظم.

ولله المنة على أن جعل ربوع العدو بعزائم المجلس حصيدا كأن لم تغن بالأمس، وأقام فروض الجهاد بسيوفه المسنونة وأنامله الخمس، وقرن ثباته بتوصيل الطعن لنحور الأعداء ووقت النحر قيد رمح من طلوع الشمس. ونرجو من كرم الله إدراك داوود المطلوب ورده على السيف بعيب هربه والعبد السوء إذا هرب يرد لا محالة بعيب الهروب.

والله يشكر تفصيل مكاتبات المجلس وجملها، وآخر غزواته وأولها، ونزال مرهفاته ونزلها، ويجعله إذا انسلخ نهار سيفه من ليل هذا العدو يعود سالما إلى مستقره والشمس تجري لمستقر لها.

أثبت هذا الكتاب بمجموعه لما فيه من النكت المطربة، والتوريات المغربة. وللقاضي محيي الدين رحمه الله تعالى في هذه الواقعة بيتان، وقيل لابن النقيب. وهما:

يا يوم دنقلةٍ وقتل عبـيدهـا  في كلّ ناحيةٍ وكلّ مكـان

من كلّ نوبيٍّ يقـول لأمّـه  نوحي فقد دقوا قفا السّودان 

 

في التخلص والاقتضاب

قال في النوع الثالث والعشرين في التخلص والاقتضاب، وقد أورد قول أبي تمام من جملة أبيات:

لا والذي هو عالمٌ أنّ النوى  أجلٌ وأنّ أبا الحسين كريم

ثم قال: وهذا خروج من غزل إلى مديح.

أقول: المشهور في هذا البيت أن أبا تمام قاله: لا والّذي هو عالمٌ أنّ النوى  صبـــــــــرٌ...

وما رأيت من أورده كذا، ولا وقفت عليه في ديوان على كثرة النسخ به إلا وهو مثبت كما ذكرته. وأما أرباب البلاغة، فقد ذكروا البيت وعدوه من العيوب، لأنه لا مناسبة بين الصبر والكرم. ولو قيل: إن الزمان بخيل وأبا الحسين كريم، أو يقول إن النوى صبر وإن الوصال شهد، كان مناسبا . وما ذكره أحد فيما علمت إلا وعده عيباً، وهذا عده من المحاسن ومثل به وغير لفظه. والعدالة غير هذا، وليته أصلحه لما غيره.

ولا بأس بإيراد نبذ مما جاء للشعراء في هذا النوع. من ذلك قول المعري أبي العلاء وقد ذكر النوق:

سألن فقلت مقصدنا سعيدٌ  فكان اسم الأمير لهنّ فالا 

وقول مسلم بن الوليد:

يقول صحبي وقد جدّوا على عجلٍ  والخيل تستنّ بالرّكبان في اللّجـم

أمطلع الشّمس تبغي أن تؤمّ بنـا  فقلت: كلاّ ولكن مطلع الكـرم

وقد أخذه أبو تمام أخذا وفلذه فلذا فقال:

أمطلع الشمس تبغي أن تؤمّ بنا  فقلت: كلاّ ولكن مطلع الجود 

وأخذه الغزي أيضاً ، وسبكه فلبكه إذ قال:

تقول إذا حثثناها وظـلّـت  تناجينا بألسـنة الـكـلال

إلى أُفق الهلال مسير ركبي  فقلنا: بل إلى أُفق النّـوال

وقول علي بن الجهم:

وليلةٍ كحلت بالنقس مقلـتـهـا  ألقت قناع الدّجى في كلّ أُخدود 

تكاد تغرقني أمواج ظلمـتـهـا  لولا اقتباسي سنا من وجه داوود 

وقول القائد أبي عبد الله السنبسي يمدح سيف الدولة صدقة بن منصور:

ونرجسٍ خضلٍ تحكي نـواظـره  أحداق تبرٍ على أجفان كـافـور

كأنّما نشره فـي كـل بـاكـرةٍ  مسكٌ تضوّع أو ذكر ابن منصور 

وقول ابن سناء الملك:

لا يرجع الكلف المشوق عن الهوى  أو يرجع الملك العزيز عن النّدى

وقوله أيضاً :

فالوجد لي وحدي دون الورى  والملك لله ولـلـظّـاهـر

وقول ابن الساعاتي:

وجدي وان كنت الذّليل ببيضه  وجد العزيز بكلّ لدنٍ أسمر

وقوله أيضاً :

كم وقفنا فيها مع الغيث مثلي  ن جفونا وكّافةً وغمـامـا

أثخنته ظبى البروق جراحـا  منهراتٍ سالت عليه ركاما

وكأنّ الغمام نقعٌ وقـد جـر  رد فيه الملك المعزّ حساما

وأحسن من هذا كله قول الشيخ شرف الدين عبد العزيز شيخ الشيوخ بحماة من غزل قصيدة يمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم:

فمن رأى ذلك الوشاح الص  ائم صلّى على مـحـمّـد

وقول أبي الحسين الجزار يمدح جمال الدين موسى بن يغمور:

جسرت على لثم الشّقـيق بـخـدّهـا  ورشف رضابٍ لم أزل منه في سكر 

ولست أخاف السّحر من لحظاتـهـا  لأنّي بموسى قد أمنت من السـحـر

وقوله أيضاً يمدح فخر القضاة نصر الله بن بصاقة:

وكم ليلةٍ قد بتّها معسـرا ولـي  بزخرف آمالي كنوزٌ من اليسر 

أقول لقلبي كلما اشتقت للغنـى  إذا جاء نصر الله تبت يد الفقر

وعلى ذكر المخلص، فما أحلى قول السراج الوراق:

لئن خفّ صدري للقوافي ونظمـهـا  ففي من وظل الجود عني مقلّـص

وكم مطلعٍ حبّرتـه مـن قـصـيدةٍ  يقول عيسى لي أو عسى لك مخلص 

وظرف من ذم التخلص في بيت واحد حيث قال: بينا ذوائب من يحبّ بكفّه  حتى تعلّق لحية الممدوح 

 

التخلص في القرآن الكريم

قال: وقال أبو العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي: إن كتاب الله خال من التخلص. إنما هو الخروج من كلام إلى كلام آخر بلطيفة تلائم بين الكلامين، الذي خرج منه، والذي دخل إليه.

ثم قال ابن الأثير: وفي القرآن مواضع كثيرة. من ذلك: وأخذ يورد ما أورده. كقوله تعالى: "واتلُ عليهم نبأَ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومِه ما تَعبدون..." إلى آخر القصة، وغير ذلك.

أقول: الذي ذكره ابن الأثير لا يخرج عما قاله الغانمي؛ فإن القرآن جميعه متعلق بعضه ببعض، كالخروج من الوعظ والتذكير إلى الإنذار أو إلى البشارة، أو إلى أمر أو نهي أو وعد أو وعيد، إلا ما خفي تعلقه في الظاهر. والإمام فخر الدين راعي هذا في تفسيره، وتكلم على علاقة الآية بما بعدها.

وابن الأثير ما فهم كلام الغانمي ولا علم مراده، وهو أنه أراد التخلص الذي اصطلح عليه الشعراء، وهو أن يتخلص الشاعر في البيت الواحد، من غزل أو عتاب أو وصف إلى مديح. ومثل هذا لم أعلم أنه ورد في الآية الواحدة. وأما تعلق الآية بما قبلها، فما شذ من هذا إلا اليسير وذلك في الظاهر، وإلا متى تدبر الإنسان ذلك وتأمله حق التأمل، لم يجده مقطوعا إلا فيما هو معلوم الاقتضاب.

 

نماذج من التخلص في إنشاء ابن الأثير

قال: وقد جاءني من التخلصات في الكلام المنثور أشياء كثيرة. فمن ذلك ما أوردته في كتاب إلى بعض الإخوان أصف فيه الربيع، ثم خرجت من ذلك إلى ذكر الأشواق. فقلت: وكما أن هذه الأوصاف في شأنها بديعة، فكذلك شوقي في شأنه بديع، غير أنه بحره فصل مصيف وهذا فصل ربيع.

أقول: قد أورد هذا الرجل من تخلصات الشعراء، كأبي تمام وأبي الطيب والبحتري وغيرهم أمثلة وما تنبه للتخلص وحسنه. أترى مثل هذا يعد من التخلصات ولو كان قال: وشقيق شق أكمامه، ورفع أعلامه، وملأ من المدام جامه، وجلا خده الأحمر وفيه من السواد شامه، وأوقد ناره فحكت جمر أشواقي وضرامه، لعد الناس هذا تخلصا . ثم ذكر فصلا آخر في البرد، وادعى أنه تخلص إلى الشوق، وهو من هذه النسبة. ثم ذكر فصلا آخر في الهدية، تخلص منها إلى الشفاعة، وهو من هذا الضرب. ثم ذكر فصلا في ذكر المودة، وتخلص إلى طلب رطب. وهو من هذا القبيل.

 

التناسب بين المعاني ومناقشة أمثلة من ذلك

قال في النوع الرابع والعشرين في التناسب بين المعاني، بعد أن أورد أمثال قول الشاعر:

ألا يا بن الذين فنوا فماتوا  أما والله ما ماتوا لتبقـى

ومالك فاعلمن فيها مقـامٌ  إذا استكملت آجالا ورزقا 

وأنكر عدم المناسبة بين إفراد الرزق وجمع الأجل، وقبحه: كنت أرى هذا الضرب واجبا في الاستعمال، وأنه لا يحسن المحيد عنه، حتى مر بي في القرآن ما يخالفه. كقوله تعالى: "أوَلم يَروا إلى ما خلَق اللهُ مِن شيءٍ يَتفيَّأ ظِلالَه عَن اليَمين والشمائل. وأورد قوله تعالى: "أولئك الذين طبَعَ اللهُ على قُلوبهم وسمْعِهم وأبصارِهم".

وقوله تعالى: "حتى إذا ما جاؤوها، شَهِد عليهم سمعُهم وأبصارُهم وجلودُهم".

أقول: لا مرية في قول الشاعر: آجالا ورزقا ، أنه معيب معدود في عدم تناسب المعاني، وقد ذكره علماء البلاغة ونصوا عليه. ولو كان قال: أجلا وأرزاقا لكان أهون، فإن الأجل واحد، والرزق متعدد. وصحة الذوق تأبى مثل هذا.

وأما إيراده هذه الآيات، فإنه لم يرد الجمع مع الإفراد إلا لحكمة لم يطلع عليها ابن الأثير. وتلك الحكمة أكبر وأعظم من مراعاة المناسبة.

ويضرب إلى جهة اليسار فهو واحد، فإذا زالت الشمس وعادت إلى جهة الغرب، انعكس الظل وأخذ عن الشمال ثم صار شيئاً ف شيئاً وتعددت زياداته وفرضت النصبة. كذا لاستقبال القبلة وشرف جهتها.

ودع ذا فإن لفظة الشمائل أعذب في الجمع من الإفراد وأحلى، والعرب من عادتها مراعاة خفة الألفاظ وعذوبتها مع عدم تناسب المعاني. وأنت قررت أن من الألفاظ ما يثقل مفردا ويخف جمعا .

وأما السمع في الآيتين الكريمتين فإنما أفرد لأنه مصدر، والمصدر يصدق على القليل والكثير، فإذا اندرج بين جموع كان له حكمها، وإذا اندرج بين مفردات، كان في حكمها.

وعلى الجملة فالمصادر جمعها عيٌ، لأن معنى الكثرة موجود فيها، أو لأنه بتقدير حذف مضاف لم يحسن في غيره، كأنه تعالى قال: وعلى حواشي سمعهم. ولا يستقيم مثله في الأبصار والقلوب.

أما الأبصار، فلأنها غير مطبوع عليها ولكنها مغشاة. وأما القلوب، فلأنها غير محوية فيما له حواش يقع الختم عليها، فكان الطبع على القلوب نفسها لا على حواشيها. ومن هذا قوله تعالى: "وجعل الظُّلماتِ والنُّور" لأن الظلمات من أجرام متكاثفة، والنور من النار. فكذا اليمين والشمائل.

 

مناقشة ابن الأثير في الاقتصاد والتفريط والإفراط

قال في النوع الخامس والعشرين في الاقتصاد والتفريط والإفراط، عند ذكر التفريط: وأعلم أن للمدح ألفاظا تخصه، وللذم ألفاظا تخصه، وقد تعمق قومٌ في ذلك حتى قالوا: من الأدب أن لا يخاطب الملوك ومن يقاربهم بكاف الخطاب. وهذا غلط باردٌ، فإن الله الذي هو ملك الملوك، قد خوطب بالكاف في أول كتابه العزيز فقيل: "إياك نعبد وإياك نستعين". وقد ورد أمثال في مواضع من القرآن محصورة.

أقول: استشهاده بهذا ليس مما يرد قول من ذهب إلى أن الأدب في خطاب الملوك ومن قاربهم أن لا يكون بالكاف، لأن هذه فاتحة الكتاب ومما يتلى في كل ركعة، والقرآن الكريم إنما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ومن جملة فوائده تنزيه الله عز وجل عن الشريك والولد والزوجة. فلو قيل: إياكم نعبد وإياكم نستعين، لكان فيه إشعار للمشركين والنصارى بما يقولونه من تعدد الآلهة، وكان شبهةً لمدعي ذلك.

وبعض المغاربة امتدح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصيدة عدتها ثمانية عشر ألف بيت. ولابن الهبارية كتاب الصادح والباغم في ألفي بيت، كل بيت منها قصرٌ مشيد، ونكته ما عليها في الحسن مزيد، يشتمل على الحكايات والنوادر والأمثال والحكم، وكلها في غاية الفصاحة والبلاغة ليس فيها لو ولا ليت.

وأما من نظم الألف وما دونه فكثير جدا لا يبلغهم الحصر، وأما الشاطبية وما اشتملت عليه من معرفة القراءات السبع واختلافها، وتلك الرموز التي ظاهرها الغزل وباطنها العلم، فكتاب اشتهر وظهر، وخلب سحره الألباب وبهر، حتى قال القائل فيها:

جلا الرّعينيّ علينا ضحى  عروسه البكر وياما جلا

لو رامها مبتكـرٌ غـيره  قالت قوافيها له الكل: لا 

وأما أراجيز النحو والعروض والفقه، كالذي نظم الوجيز ومنظومة الحنفية وغير ذلك من الطب وغيره من العلوم، فكثير جدا ، إلى الغاية التي لا يحيط بها الوصف.

وما سمعنا بمن اشتغل من العجم بالعربية إلا وفضل اللغة العربية، برهان هذه الدعوى أن أبا علي الفارسي، وبندار، وأبا حاتم والزمخشري وغيره هؤلاء، لما اشتغلوا بالعربية وذاقوا حلاوتها، هاموا بها وكلفوا بمحاسنها، وأفنوا الليالي والأيام في تحصيلها، وأنفقوا مدة العمر في تأليفها وتدوينها وتتبع محاسنها وقواعد أقيستها وغرائب فنونها، ومن المستحيل أن يكون هؤلاء القوم اجتهدوا هذا الاجتهاد في العربية وأفنوا مدة العمر وهي ما لا يخلف في شيء هو دون غيره. والأولى بهم وبكل عاقل الاشتغال بالأحسن والأفصح والأبلغ والأحكم، ولو علم هؤلاء القوم أن اللغة الأعجمية لها أفعل التفضيل، ما عرجوا على العربية إلا ريثما عرفوها، ثم عاجوا إلى لغتهم.

ومن الكلم النوابغ للزمخشري: فرقك بين الرطب والعجم، فرق بين العرب والعجم.

ومنها: العرب نبعٌ صلب المعاجم، والغرب مثلٌ للأعاجم.

فانظر إلى الزمخشري كيف جعل العرب رطبا والعجم عجما . والعجم بتحريك الجيم هو النوى. وكيف جعل العرب مثل شجر النبع، وهو صلب تتخذ منه القسي، وجعل العجم مثل شجر الغرب، وهو خوار.

قال المتنبي:

فلا تنلك اللـيالـي إنّ أيديهـا  إذا ضربن كسرن النبع بالغرب 

فإن قلت: ما كان علماء العربية من العجم عالمين باللغة العجمية كما ينبغي، قلت: أليس أنهم كانوا يعرفون العجمية، ثم أنهم تمهروا في العربية وبالغوا في إتقانها. ومن وصل في لغة من اللغات إلى ما وصل إليه أبو علي والزمخشري وغيرهما من معرفة الاشتقاق الأكبر والأصغر والأبنية والتصريف، في الاسم والفعل الماضي والمضارع والأمر واسم الفاعل والمفعول وصارت له تلك الملكة، كان عنده من الأهلية أن ينظر في كل لغة عرف لسانها، وأن يستخرج قواعدها ويتبع أصولها، فيقع على غرائب حكمها ومحاسن قواعدها، لاشتباك العلوم بعضها ببعض، واجتماع شملها في الغاية التي أوجبت وضعها. ولا يضع اللغة إلا حكيم.

ألا ترى أن بعض النحاة رتب اللغة التركية على القواعد النحوية، وميز الاسم من الفعل، والماضي من المضارع من الأمر، وضمير المتكلم من المخاطب من الغائب، والجمع من الإفراد، وعلامة الجمع، والمضاف من المضاف إليه إلى غير ذلك، وهذا أمر غير خاف.

وأما قوله: إن كتاب شاهنامة ستون ألف بيت، كلها في غاية الحسن من الفصاحة والبلاغة، وما فيها ما يعاب، فإن هذه الدعوى لا تسمع مجردةً عن البرهان الذي يؤيدها. ومن يأتي بستين ألف كلمة، أو بستة آلاف كلمة تكون في غاية الفصاحة في الألفاظ، والبلاغة في المعنى حتى إنها لا تعاب بوجه ?! هذا ليس في قوى البشر في لغة من اللغات.

سلمنا أن ذلك ما يعاب في تلك اللغة، فمن أين لك أن جيد شعر العجم في طبقة جودة شعر العرب. كما تقول: القمر أشد نورا من النجوم، والشمس أشد نورا من النجوم، فالشمس والقمر اشتركا في الفضيلة على النجوم، ولكنهما في نفسيهما لا يستويان مثلا .

وكلٌّ له فضله والحـجـو  ل يوم التفاضل دون الغرر 

فهل جيد العجم مثل جيد العرب. كوصف امرئ القيس في الخيل، والنابغة في الاعتذار، وزهير في المدائح، والأعشى في الخمر ? أو كجيد جرير والفرزدق والأخطل وبشار بن برد ومسلم بن الوليد وأبي نواس وديك الجن والحسين بن الضحاك والمتنبي وأبي تمام والبحتري وابن الرومي وابن المعتز وأبي فراس وغيرهم وإلى هذا العصر، وما بين ذلك من الشعراء الذين تغرق قطرات العجم في لججهم، حتى إنه يقول: إن ذلك كله جيد لا يعاب. هل يستويان مثلا في الجودة من حيث هي:

ألم تر أنّ السـيف ينـقـص قـيمةً  إذا قلت إنّ السيف أمضى من العصا 

وإنما قلّ الجيّد في الشعر، لأن البلغاء وعلماء الأدب انتقوا الجيد العالي الذي يكون نهاية في الفصاحة والبلاغة، وجعلوه أنموذجا ومثالا يحذى، على ما قرروه بقوة فكرهم وصحة انتقادهم. فكان ذلك الجيد في الطبقة العليا. ولا جرم أن الساقط من الشعر أكثر من العالي عند أئمة البلاغة، وإلا فعلى الحقيقة، الذي يعده أرباب البلاغة من ساقط الشعر يكون جيدا عند غيرهم غير معيب، إلا ما هو ساقط إلى الغاية. وهذه النكتة هي العلة في قلة الجيد من الشعر.

ومن أين في شعر العجم ما في شعر العرب من المجاز والاستعارة والكناية والتشبيه والتورية والاستخدام والجناس، على اختلاف كل نوع من هذه الأنواع وتشعب أقسامه. إلى غير ذلك من أنواع البديع وهو ما يقارب المائة نوع. هيهات ما بينهما صيغة أفعل.

وذكر الحصري في زهر الآداب أن أعرابيا قال لشاعر من أهل الفرس: الشعر للعرب، وكل من يقول الشعر منكم، فإنما نزا على أمه رجل منا. انتهى.

وقد أنصف ابن خلف في قوله: وللعرب بيت وديوان، وللعجم قصر وإيوان وأما دعواه أن الشاعر لا يحسن في الأكثر، فالعذر في ذلك ظاهر. لأنه في ضائقتين شديدتين إلى الغاية. وهما: الوزن، ولزوم الروي الواحد. والناثر غير مضطر إلى شيء منهما، بل هو مخلىً ونفسه، إن شاء أتى بسجعتين على حرف واحد، وإن شاء على أكثر، وإن شاء أتى بالسجعة على عشرين كلمة، أو على أقل إلى كلمتين. ولو أتى الكاتب برسالة مطولة على حرف واحد في سجعه، وعدد مخصوص من كلمات السجع، لكان حاله حال الشاعر، بل كان كلامه أسمج وأثقل على الأسماع والقلوب، لأن الشعر يروجه الوزن، ولا كذلك النثر. فحينئذ لا يصلح هذا أن يكون فضيلة في النثر على النظم.

وكيف ولم يزل للشعر ماءٌ  يرفّ عليه ريحان القلوب 

وليكن ها هنا آخر ما أردته من الكلام على المثل السائر وقد سامحته في كثير سقطه فيه ظاهر.

على أنني لا أنكر ما له فيه من الإحسان، والنكت التي هي لعين هذا الفن إنسان فإنه لم يأل جهدا في التوقيف الذي وقفه، ولم يقصر في التثقيف الذي ثقفه.

وقد نبه على محزات هذا الفن، وأشار إلى اقتناص ما شرد منه وما عن. وإذا اتفق للكاتب أو الشاعر مراجعة المثل السائر والفلك الدائر وهذه الأوراق، فلا مرية في أن ذلك يفيده فوائد جمة، ويتنبه لموارد الخطأ فيجتنبها، ويتيقظ لمواقع الحسن فينتجعها.

وقد أهديتها لك وهي عندي  على الأيام من أزكى الهدايا 

ولله الحمد أولا وآخرا ، والصلاة على سيدنا محمد وآله وصحبه الطيبين الطاهرين والسلام.

  

 

منسوخ من موقع الورَّاق - جزاهم اللَّه خيراً

قام بنسخه وتنسيقه ونشره أخوكم (خزانة الأدب)

وهو يُرجو ممن يستفيد منه أن يدعو له ولوالديه

وأن لا يحذف هذه السطور 

======

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج1وج2.شَرْحُ عِلَلِ التِّرْمِذِيِّ للإمام العالم الحافظ النّقّاد أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي

شَرْحُ  عِلَلِ التِّرْمِذِيِّ  للإمام العالم الحافظ النّقّاد أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي 736 هـ ـ 795هـ رحمه الله تعالى...